لا إبداع خارج الألم!

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشبه الروائية «أغوتا كريستوف» صاحبة ثلاثية (الدفتر الكبير)، في كتابها (الأمية)، الذي تروي فيه سيرتها ككاتبة، شغف القراءة لديها بالمرض، فتقول في فصل البدايات: «أقرأ.. الأمر أشبه بالمرض، أقرأ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي، جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات ورق مطروحة في الطريق، كتب أطفال، وصفات طبخ، كل شيء مطبوع..».

وإذ تفاجئنا بقولها (أنا في الرابعة، و«الحرب» قد بدأت لتوها)، نعلم أنها كانت تعني الحرب العالمية الثانية، التي غيّرت مسار حياتها وعائلتها تماماً، لتجد نفسها في رحلة تنقُّل، قادتها في نهاية الأمر من بلدها هنغاريا إلى إحدى البلدات السويسرية كلاجئة، ومن ثم كعاملة في أحد مصانع الساعات السويسرية!

هنا ندخل عوالم هذه الروائية، عبر روايتها (الدفتر الكبير)، التي أرّخت أغوتا سيرة الحرب من خلال قصة طفلين تتابع حكايتهما على مدى ثلاثة أجزاء، فتصيبك حالة من اللا يقين والشك في كل شيء، وتتهدم أمامك عوالم كاملة، كنت تظنها ثابتة للأبد، وهكذا تفعل الحرب!

ليس من شيء يستطيع أن يجعلنا نفغر أفواهنا برعب، ونفتح أعيننا بهلع، ونحن نقرأ عن الحرب، وكأننا نشهدها فعلاً، إلا الأدب والروايات التي تأخذنا بقسوة لتلقينا في قلب المعارك وأمام عيون الضحايا، ومعسكرات التعذيب وغارات الطائرات، وهي تلقي القنابل على رؤوس السكان في بيوتهم وحدائقهم، فيتشظون في أمكنتهم، ويدفنهم أبناؤهم في الحفرة نفسها التي أحدثتها القنبلة في الحديقة، ويهيلون عليهم التراب، ثم ينصرفون لتناول الغداء، هكذا، وبهذه القسوة المتجردة من أي مشاعر وانفعالات، تزجّ بنا الروائية المجرية (أغوتا كريستوف)، في خضم روايتها (الدفتر الكبير)!

تكتب أغوتا عن الحرب كمن يكتب بسكين حادة، كيف يتفتح وعي الصغيرين خلال الحرب، على انهيار أخلاق الأم والجدة والأب والجارة والضابط، والجميع دون استثناء، إنها أخلاق الحرب، التي تدمر ما هو أهم من البيوت، لقد لوثت الحرب الطفلين، ومحت كل أثر للطفولة والبراءة فيهما، ودفعتهما لأسوأ ما يمكن تصوره! وُلدت أغوتا كريستوف في هنغاريا عام 1935، وقبل وفاتها بسنوات دخلت في حالة اكتئاب وشعور باللا جدوى من أي شيء، وفي 2011 توفيت في صمت تام، بمنزلها، في إحدى ضواحي سويسرا.

Email