جدتي التي لم يفتها شيء!

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تفاصيلنا اليومية، عندما كنا نمارس الحياة بالبساطة المثلى التي اعتدناها، كان الكبار لا يتوقفون عن إطلاق تلك المقولات العميقة التي تشبه كلام الفلاسفة الكبار، والتي كلما أعدنا اليوم تذكرها وتأملها شعرنا بذات الألم أو الدهشة أو حتى الفرح الذي انتابنا حين سمعناها للمرة الأولى، لقد كنا نعدها نصائح ثقيلة لا تحتمل، وكنا نضحك عليها، اليوم ها نحن نستعيدها بكل التبجيل الذي فاتنا سابقاً!

كانت جدتي لأمي تمتلك قاموسها من الأمثال والحكايات والمقاربات الحكيمة، كانت سيدة قوية الشخصية رغم يتمها المبكر، تمتلك ذائقة فائقة في إعداد الطعام، واختراع أطعمة وأكلات لم تكن معروفة، ببساطة لقد كانت تمتلك موهبة اختراع الأشياء.

حتى في أساليب معاقبتنا كأطفال كانت تخترع طرقاً غريبة بعض الشيء، ما زلنا نتذكرها ونستعيدها، فإذا تأخرنا في العودة للبيت وقت الغداء كانت تنذرنا، ثم تسمح لنا بالجلوس لتناول الطعام، تاركة تلك العبارة الرنانة تتأرجح أمام أعيننا، تقول «في المرة القادمة إذا أتيتم متأخرين لن يكون هناك طعام غداء، سيكون في القدر شيء آخر تماماً»! ولقد تحديناها يوماً لنرى ماذا ينتظرنا، وفعلاً رأينا، لقد كان القدر خالياً إلا من حجر يملأه!

وإذا أكلنا بسرعة كانت تقول: لماذا السرعة لن يفوتكم شيء، لا أحد يركض خلفكم، إذا جاهرتها جارتها بالصراخ وافتعال معركة نسائية تافهة كانت تدعها تثرثر صارخة بينما كانت هي تتسلى بقرع قدر أو برميل فارغ وبصوت يغطي على صوت الجارة، يقول لها جدي: اسمعيها، تقول له: لن يفوتني سوى القيل والقال!

أتذكرها كثيرها، أترحم على أيامها، وحكمتها، أتساءل لماذا لم يعد الناس يمتلكون حكمة جداتهم وأهلهم السابقين، ما الذي فاتهم أن يتعلموه منهم، لقد أعطونا كل خلاصاتهم، لم يتركوا شيئاً لم يقولوه لنا، أستعيد حكاياتها مع جارتنا وأنا أقرأ محمود درويش يقول:

«واليوم أخطو برفق أكثر بعد أن ركضت لوقت طويل خوفاً من أن يفوتني شيء وفاتني كل شيء»، لكن جدتي لم يفتها أي شيء!

 

Email