حنين..

ت + ت - الحجم الطبيعي

لأنني ابنة حي تقليدي جداً من أحياء مدينة دبي، ولدت فيه وأمضيت طفولة منطلقة في هذا الحي، لذلك فأنا أحن دائماً إلى الأمكنة والأحياء القديمة في دبي، ولأن معظم أحيائنا التي ولدنا فيها وعرفتها شقاوات طفولتنا قد أصبحت أثراً بعد عين، لذا اكتفينا بالأحياء المرممة التي صارت أقرب إلى أماكن الفرجة والسياحة، وهذه ربما تذكر وتستعيد شيئاً مما كان، لكنها حتماً لا تقول كل الحكاية ولا تقدم الصورة كاملة!

حين يغلبني الحنين أكثر أجدني أسأفر باحثة عن تلك الأحياء، حيث أجدها كما هي مستقرة في تلافيف دماغي كزهرة ياسمين لم تفقد عبيرها. إن لهذا الحنين أسبابه، وأظن أن أول تلك الأسباب فقدان أحيائنا التي غادرناها باكراً قبل أن تشبع أيامنا منها، وكأننا كنا نظن أننا سنغادرها ونعود بعد زمن، لكننا حين عدنا كانت الأحياء قد تلاشت!

عندما كنا أطفالاً لم نكن نعرف للحنين طريقاً، كان معنى بلا معنى، بلا إحساس، معنى لم نمتلك يوماً القدرة على لمسه أو تنفسه في ذلك العمر الصغير، أما حين صرنا شباباً صغاراً وانغمسنا في تأرجحات وخضات ذلك العمر فإن آخر ما كان يشغلنا هو الحنين أو ذكريات الأمس، لم نكن بعد قد مشينا تلك المسافة بين الحي والمدينة وبين المدرسة والجامعة، لقد كنا نطل على كل ما كان من مسافة قريبة، فنرى كل ما كان دون أن ينتابنا أي شوق أو حنين، بل في أحيان كثيرة كنا نخجل من ذلك الإحساس ومن اعترافنا ببؤس أحيائنا البسيطة، كنا نحلم بالمدن التي بدأنا نعرفها في الكتب والمجلات وكلام الكبار.

أمشي الآن في حي قديم من أحياء مدينة إسطنبول التي لم يمض زمن على مغادرتي لها، تحملني الطرقات من زقاق لآخر، أتلمس الجدران، وأستعيد تفاصيل الأبواب والنوافذ المسيجة بقضبان الحديد التي تلمع في ذاكرتي، أما أصوات الأذان الذي يتردد صداه في كل مكان فتعيدني إلى صورة جدي وأبي وهما يغادران إلى مسجد الحي، بينما جدتي تنادي نساء المنزل وتنادينا أن قوموا للصلاة واذكروا الله.

Email