في مديح اللغة

ت + ت - الحجم الطبيعي

سألني قارئ: طالما كانت اللغة وسيلة إنسانية اخترعها الإنسان ليتواصل مع غيره، فلماذا التركيز على أن يكون هذا التواصل بلغة محددة، طالما تحقق الهدف بأي لغة؟ إن أي لغة يجيدها المتحدثون فيما بينهم تعتبر لغة صالحة، وكان يجادلني في موضوع اللغة العربية، وسبب استيائي من إهمال الشباب لها لصالح الإنجليزية!

والحقيقة، فإن اللغة القومية لأي شعب أو أمة، ليست وسيلة تواصل فقط ، إنها رافعة وجودية هائلة ذات حمولات كثيرة ومتعددة وغائرة في أعماق الفرد والأمة، أما كونها أداة تواصل بين الفرد ومحيطه فهذا من نافلة الاستخدام ومن أبسط وأول وظائف اللغة في أي جماعة إنسانية، وهي كذلك أداة تعبير وتفكير ومشاعر.

وهي وسيلة عاطفية بالدرجة الأولى لفهم كل ما يربط الفرد بتاريخه ودينه وعاداته وتقاليده وثقافته، فنحن نصلي بلغتنا وندعو الله بها، كما نعبر عن مشاعرنا وعواطفنا وتعاطفنا وغضبنا ورضانا وعن ذواتنا بهذه اللغة، إن اللغة أداة تفكير قبل أن تكون أداة حديث، فبها نفكر وبها نقدم أنفسنا للآخر في هذا الوجود الكبير الذي يصنف البشر بحسب العرقيات واللغات، كل هذا لا يعني موقفاً مضاداً من أي لغة، لكنه حتماً يعني موقفاً مسانداً ومفصلاً للغتنا الأم: اللغة العربية، ولا بأس بعدها أن تتعلم الأجيال ونتحدث بألف لغة ولغة.

وحتى حين نصيغ عباراتنا المؤثرة وأمثلتنا ومنطقنا وفلسفتنا، فإننا نعود لجذورنا ننهل منها كمرجعيات ومنابع تربينا عليها وتعلمناها هذا أولاً، ومن ثم نعيد صياغتها أو ترجمتها بلغة أجنبية لتصل للآخر.

لأن اللغة واحدة من مكونات الهوية والوجود، فأنت عربي لأنك تعيش في جغرافيا محددة وتتحدث بلغة عربية، وتدين بديانة معينة، ولديك تاريخ وثقافة وتفاصيل بلا حدود تعبر عنها اللغة وتعرفها وتمنحها أسماء وأصواتاً وموسيقى! وإن من ينسَ أو يُنَسَّ لغته، فإنه يفقد هويته وانتماءه وتالياً يصبح نسياً منسياً، وهذا على وجه الدقة ما كانت تحاوله كل الدول الاستعمارية حين كانت تفرض على شعوب المستعمرات لغتها، في محاولة لاجتثاثهم من جذورهم، لينسوا تاريخهم وثقافتهم وحقهم في بلادهم.

 

Email