أمي التي عرفتني على ديستويفسكي

ت + ت - الحجم الطبيعي

وأنا أجمع حاجياتي الكثيرة منذ يومين، مترددة بين تفضيلاتي وتفضيلات المناخ، وأرتبها في حقيبة كبيرة، استعداداً لرحيل جديد، تضارب في رأسي أمران: الأول أنني لم أسافر منذ عام تقريباً، وكنت في أمس الحاجة لبضعة أيام أعيشها تحت سماء أخرى، لا تقتات الأحزان والأخبار وصور المنكوبين والأشلاء، لقد كان لا يمر شهران أو ثلاثة بين سفر يأخذني شمالاً وآخر يرميني جنوباً، لكن الزمان تبدل كثيراً على ما يبدو، وبدلنا من أعمق نقطة فينا، هذه التبدلات التي لا قبل لنا على إبطاء سرعتها أو تغيير مزاج الوقت الذي سرعان ما يتعكر فيعكرنا معه.

والأمر الثاني فهو أمي، التي أعلم أنني سأتركها وحيدة في البيت، ما يفاقم شعوري بالألم، لكنها الحياة لا تمنحك أصغر متعها ومكافآتها ما لم تسلخ شيئاً من جلد الروح، ولكن ماذا في مقدورنا أن نفعل؟ هل يصح أن نهجر الحياة؟ ننسى رغباتنا واحتياجاتنا، نعترف للإكراهات بالانتصار والسطوة؟ ماذا نفعل؟ لقد جبلت الحياة على ذلك، وجبلنا نحن على العناد، والاحتمال والحلم، وعلى أن نرغب ونسعى ونريد ونضحي لأجل ما نريد ونحب!

يقول نزار قباني في قصيدته «قارئة الفنجان» التي غناها عبدالحليم عام 1976 فسمعناها منه، وتعلقنا بها:

ستجوب بحاراً وبحارا، وتفيض دموعك أنهارا.

وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجاراً أشجارا.

وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان.

وستعرف بعد رحيل العمر.. بأنك كنت تطارد خيط دخان

مع ذلك، فإن أكثر ما يبهج قلبي هو شعوري بالفرح الغامر يتدفق في قلبها، إذ أسافر لأرى وأعرف وأكتب وأبتهج، ثم أحكي لها الطريق والرحلة معاً، إن أمي التي لا تستطيع اليوم أن تسافر هي التي زرعت في داخلي بذرة الأسفار، لأنها كانت تعشق السفر واكتشاف الأمكنة الجميلة، تماماً كما زرعت في قلبي بذرة الكتابة والقراءة وعلمتني كيف أطارد الورق والكلمات والكتب، وكيف أحب ديستويفسكي وهي التي لم تعرفه يوماً أو تقدر حتى على نطق اسمه!

Email