لستم وحدكم في هذا العالم!

ت + ت - الحجم الطبيعي

في آخر عهد عائلتي بأحيائنا القديمة التي تنقلنا بينها، ابتداء من (فريج المرر) حتى الحمرية، وفي أواخر أيام طفولتنا على ما أتذكر، كانت شخصية المجنون لا تزال موجودة في كل هذه الانتقالات والأحياء، كان كعلامة فارقة في كل حي، كما كان لكل حي مجانينه وحكماؤه، لقد كان المجنون شخصية لا يخلو منها أي حي كشيخ المسجد أو الملا.

وقد ذكر الروائي أمين معلوف ذلك، حين قال: «شخصيتان لا تخلو منهما أية مدينة أو قرية أو ضيعة عربية: رجل الدين والمجنون» في روايته «صخرة طانيوس»!

حدثتني أمي عن امرأة كانوا يكنونها بالمجنونة، ولطالما تجنبها الناس ودعوا الله أن يجنبهم أذاها، جنونها اتخذ مساراً عجيباً، لم تكن تؤذي الصغار أو ترمي المارة بالحجارة، لكنها تعرف على وجه الدقة متى تنتهي نسوة الحي من إعداد طعام الغداء، فتغافل أهل البيت الذي اختارته وتسرق قدر الغداء وتأكل منه قدر ما تشاء، ثم تنطلق بما تبقى منه باتجاه البحر، تدخله حتى يظن من ينظر إليها أنها على وشك الغرق، لكنها تتوقف في اللحظة الحاسمة مفرغة القدر في لجة البحر وتعود خالية الوفاض!

فإذا اكتشف أهل الدار سرقة الغداء عرفوا مباشرة من الفاعل، وإذا صادف والتقوها سألوها لماذا فعلت ذلك وحرمتهم طعام يومهم؟ عندها تجيبهم بكل ثقة وبلا مبالاة، تقول كمن تبرر فعلتها: «هناك مخلوقات أخرى أيضاً تريد أن تعيش وتأكل، لستم وحدكم في هذا العالم!»، لكن من ذا يحاسب مجنوناً؟!

وبعيداً عن الجنون، حدثتني أمي كذلك عن امرأة كانت تعرف لغة الكون، ماذا تقول الريح، وبماذا يهمس الموج وهو يتدحرج على الشاطئ في أبديته اللانهائية، كانت تحب القطط، وتعالج المرضى وتمسح على أصحاب القروح والأوجاع المستعصية! في الحقيقة كنت وأنا أسمع أمي تحكي عن تلك النماذج، أتذكر شخصيات مشابهة صادفتها في حكايات وروايات روائيي أمريكا الجنوبية ومصر ولبنان والجزائر، هناك شخصيات ثابتة لم تكن المدينة تخلو منهم... وعندما خلت منهم، بدا وكأنها مدن بلا روح!

Email