تقول الأديان جميعها إن خلق الكون وسلسال البشرية منذ آدم بدأ بكلمة (كن)، فكان كل الذي نراه وكل ما لا نراه، بكلمات يصل البعض إلى القمة، وببضع كلمات يهوي آخرون إلى الحضيض، ولو راجعنا سجل ذاكرة الأحداث لوجدنا أناساً رفعوا إلى أعلى المناصب بسبب كلمات قالوها، وآخرين فقدوا مناصبهم بسبب كلمات قالوها أو تعاملوا معها بلا مبالاة، دون نظر في عظم أمانة الكلمة؛ لذلك فالفيلسوف الألماني «هيدجر» يقول: «اللغة هي بيت الوجود، وفي بيتها يقيم الإنسان».
لم يصنع الإنسان اللغة، إنما هي من صنعته وتصنعه كل لحظة ينطق بها، عبر ما يعرفه ويتعرف عليه ويعبر عن أفكاره وأسئلته وكل ما يحيره، باللغة يتأسس وجود الإنسان ككائن حر، مستقل، مفكر، معتقد، مؤمن، متسائل، شكاك أو واثق، متحاور ومنفتح؛ وعليه فكل ما يتردد في داخلنا تبينه اللغة، وكل ما يمكن التعبير عنه باللغة فهو موجود، اللغة هي بيت الوجود، والإنسان جزء مهم في هذا الوجود.
تجعلك اللغة تقول وتعبر وتنطق بأفكارك التي تؤمن بها، وربما تعرضت للخطر، لكنك تقاوم وتستمر، فيظهر وعيك وتتأسس صلابتك، وتستحق شرطك الإنساني، وتعلو باللغة وحدها على سائر الكائنات.
لكن أين هي اللغة اليوم؟ أين الناس من استخدام اللغة واستخدامها وإطلاق العنان للأسئلة والحوارات وتبادل الأفكار؟ أين المتحاورون بهدوء وسط الحشود والجماهير التي لا تريد أن تقترب من بعضها بقدر ما تريد الصراخ والاحتماء ببعضها في التجمعات والتظاهرات؟ حتى أصبح البحث عن المعنى والتفكير والحوار والنقد والنقاش والرأي كلمات غير مستساغة، بل وتثير ذعر البعض!
صار الناس لا يستخدمون اللغة كثيراً مع بعضهم، تأمل كم تحتل الحوارات والمحادثات الهاتفية اليوم بين الأصحاب والأهل مقارنة بالماضي، وقياساً بما تحتله الأجهزة والبرامج التقنية؛ لذلك ضمرت لغة أجيال اليوم الذين لم تتدرب ألسنتهم على استخدام اللغة لا في المدرسة ولا في البيت، بقدر ما تدربوا على التوحد واستخدام أصابعهم للنقر على أزرار الأجهزة الإلكترونية.
نحن بحاجة ماسة للعودة لبيت اللغة، وهذه مهمة الجميع، وأولهم الأسرة ومناهج التربية والتعليم.