اعتدنا أن تحدثنا أمي عما مرت به وعاشته، بوفاء حقيقي، وبذاكرة مضيئة، ووعي عميق بقوة وضرورة أن تصل حكاياتها لجيل أبنائها، ومنهم إلى أحفادها، وكل ما يأتي بعدهم، كانت تفعل ذلك بدأب، كفلّاح يدفن بذوره في قلب التربة، فينبتها ويحفظها، فتصير البذرة شجرة، وتصير الشجرة غابة.
أمي، لا تقوم بذلك من منطلق التوجيه والفرض، لكنها تستأمننا أسرار ذاكرتها، تضع في قاع قلوبنا تاريخ أهلها وحيها ورجالات زمانها، الذين سمعت قصصهم، وشهدت مواقفهم، والنساء اللاتي تركن أثراً فيها، ورحلن، ولم ترحل أرواحهن ووصاياهن! لذلك، فحين نستغرب أو نتململ، لأنها تعيد ذات الحكاية المرة تلو الأخرى، تقول أريد أن أتأكد تماماً أنني كتبت في قلوبكم ذاكرتي حتى آخر سطر، فهؤلاء الذين أُقلب أيامهم معكم، وأنبش أصواتهم، وأردد كلماتهم وأفكارهم، وما فعلوا وما قالوا، سيرافقونكم كما رافقوني، وستحتاجونهم كما احتجتهم، في مقبل أيامكم!
أمي سيدة لا تحب الثرثرة، ولا تحكي لنا كل ما تحكيه كلما وجدت الوقت مناسباً، وصحتها تعينها على الحديث المتشعب، على طريقة تمضية الوقت وملء الفراغ، لأنها لا تؤمن بأن الوقت يفترض ألا يكون فارغاً، علينا ملؤه بالكلام، لكنها تؤمن بأن بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين مسافات، عليه أن يتأملها بروية، وأن يعيشها بفهم، وبينه وبين الآخرين أفكار وتجارب ومواقف، تحتاج أن نعلنها بصوت عالٍ، كي يستفيد الجميع ويتعلموا، فواحدة من طرق نقل المعرفة، هي الكلام بصوت مسموع ومقروء معاً.
إن من مروا ومن رحلوا، ومن راحوا، لا يصيرون نسياً منسياً، لا يتحولون إلى رماد، ولا هواء ولا أوراق صفراء، لأن هؤلاء الناس يمتدون فينا، إنهم نحن في ختام الحكاية، لا فرق بين أثرهم وسعينا، هم بعض مما كوّن تفرد كينونتنا وهويتنا، ونحن استكمال لحياة أمهاتنا وآبائنا وأجدادنا، فنحن مزيج واضح من التاريخ، ورائحة المكان، وصوت التقاليد والدين واللغة، ولذلك، لا بد أن يبقى سؤالنا حاضراً لا يغادرنا: ماذا سنترك لأبنائنا؟ ما الذي يحكيه جيلنا لأطفاله وأحفاده؟ وماذا يكرر عليهم؟ وعلى ماذا يستأمنهم؟