وما أدراك ما اللغة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي أحد المثقفين العرب في كتاب بعنوان «لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ» عن تجربة دراسته في فرنسا نهاية السبعينيات فيقول:

«ذات يوم كنت أستمع إلى أحد خطابات الرئيس الفرنسي. كنت يومها طالباً تونسياً مبتعثاً للدراسة في فرنسا في تلك السنوات، أخذت أنصت للرئيس (جورج بومبيدو) وهو يحض الفرنسيين على بذل المزيد من الجهد لتعليم أبناء المستعمرات اللغة الفرنسية، وعلى جعلهم يحبونها، كان يقول: علموهم الفرنسية، ليحبوا كل شيء فرنسي وحتى يشتروا البضائع الفرنسية، ويعودوا إلى فرنسا دائماً..!».

يقول هذا الطالب، استمعت للخطاب حتى نهايته، ففهمت أن «بومبيدو» يريد أن يخرج من بلدي من باب، ويدخل من باب آخر، إنه يريد أن يحتلني عبر اللغة الفرنسية والمقتنيات والبضائع، لذلك أسرعت إلى أقرب هاتف، لأحادث والدتي، تلك القروية البسيطة، وأطلب منها أن ترسل لي كتباً وحلويات وأغطية، لا أريد أن أشتري أي شيء من هنا «كنت أشعر بأنني أحمي نفسي من الاحتلال!».

يقول الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، إن الاستعمار يترك البلاد التي يستعمرها، لكنه يترك في داخلها القابلية للاستعمار أو الاستعداد للاستعمار، تلك القابلية تتجلى في الإعجاب بثقافته، وبمنتجات تلك الثقافة إلى درجة الشعور بالدونية أمامها، فيصير سكان المستعمرات يتحدثون لغة المستعمر رغم رحيل الاستعمار، والأمر ليس في اللغة كوسيلة خطاب وثقافة، فهذا لا ضير فيه، ولكن في اعتبار لغة المستعمر ومنتجاته وما يتصل به، مقياس تحضر وحضارة، ودليل تمدن، وغير ذلك تخلف وجهل!

لا شك في أن اللغة اختراع بشري عظيم، وجدت ليتواصل بها الإنسان مع غيره، ثم ليسجل بها إنجازاته، ويحفظ تاريخه، ثم ليتعلم ويقرأ، ويُعرف ويتعارف بها، ولكل أمة بهذا المعنى لغتها وتراثها وتاريخها الذي يمثلها، بحيث لا يجوز التفريط في اللغة القومية خوفاً أو تقرباً من أي ثقافة أو شعوراً بالدونية تجاههم، لقد خاضت الأمم نضالات كبرى دفاعاً عن هوياتها ولغتها، فاللغة عنصر وجود لا تقبل المساومة.

Email