عالم الذاكرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحد أعقد وأغرب العوالم التي يمكن لأديب أو قاص أن يتحدث عنها هو عالم الذاكرة البشرية، حيث تُعَرّف الذاكرة باعتبارها المخزن، الذي يتم تجميع المعلومات فيه، ثم يتم استرجاعها وقت الحاجة، من خلال عملية تعرف باسم التذكر، وللذاكرة ثلاثة مستويات أو أبنية كما ذكر علماء النفس هي: الذاكرة الحسية، والذاكرة قصيرة المدى، والذاكرة طويلة المدى.

إن عملية التذكر ليست بالعملية السهلة كما نظن، إنها شديدة التشابك، يتداخل فيها الزمان والمكان مع الحواس المختلفة، وهي تمر بمراحل وتطورات لتخزين ما تراه الحواس، وما تستوعبه، ومن ثم إعادة استدعائه وقت الحاجة، لذلك فقد اعتبر البعض أن الإنسان بلا ذاكرة غير موجود تماماً، وأنه ينتهي ويؤول إلى النسيان، بمجرد أن يفقد ذاكرته، التي يختزن فيها سيرة حياته، وتاريخه، وكل تفاصيله، وكل شخص، وكل اسم عرفه أو ارتبط به!

هل تتذكرون ذلك المشهد، الذي لا ينسى في رواية ماركيز الخالدة «100 عام من العزلة»، عندما اجتاح الطوفان مدينة «ماكوندو»، وكادت تمحى من على وجه الأرض بكل تاريخها، كيف صار الناس يكتبون قصاصات بأسماء الأشياء كي لا ينسوها (هذه بقرة، هذه شجرة.. إلخ)، ولهذا السبب تحديداً اخترع الإنسان الكتابة، وسجل سيرته وسيرة العالم حوله، كي لا يأتي يوم ويجد ذاكرته قد فقدت مخزونها!

لدى الشاعر العظيم بورخيس قصة بعنوان «ذاكرة فونيس» أو «فونيس الذَّكور»، تحكي عن تبدل أحوال (إيرينيو فونيس) الفلاح، الذي يتعرض لحادث سقوط من على ظهر حصانه، ما تسبب في ضرب رأسه بشدة، ليفيق من الحادث بمهارة فائقة على تذكّر كل شيء، إلى درجة أنه يمكن أن يتذكر كل أوراق الشجرة، التي رآها منذ ثلاثين عاماً.

هذه الذاكرة الأشبه باللعنة نقيض للذاكرة المفقودة تماماً، إن فقدان الذاكرة أشبه بالضياع في صحراء بيضاء بلا تضاريس، والعجيب أن ماركيز، الذي تنبأ بفقدان الذاكرة لسكان مدينته المتخيلة، واخترع لهم طريقة لحفظ ذاكرتهم، فقد ذاكرته تماماً في أيامه الأخيرة، ودخل صحراءه البيضاء، ولم يخرج منها.

Email