مدن الديستوبيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبقى قناعاتنا راسخة، أو لنقل مستقرة، حتى تتعرض لسؤال مزعج، لمعلومة فجة، لمشهد لا يتقبله العقل، لتجربة إنسانية قوية، لحالة حقيقية، تهز تلك القناعات الرابضة في تلافيف الدماغ، فتقوضها من جذورها! ينطبق ذلك على قناعاتنا، كما على علاقاتنا، ونظرتنا لكثير من الأمور!بعد ذلك الاصطدام، لا تعود الأمور كما كنت، لا تعود تنظر بذات الرومانسية لبعض الأمكنة، أو لبعض الأشخاص، تشعر كأنك ترى الأشياء للمرة الأولى، فلا يعود إيمانك بها كما عهدته، وتبدأ التساؤلات، ولا تتوقف الأسئلة، فما الذي حدث؟ لا شيء! لكنك غيرت زاوية النظر!

كنت قد قرأت منذ سنوات رواية (1984 لجورج أورويل)، التي كتبها عام 1948، والتي يصف في بدايتها الجو العام للمدينة التي تجري فيها أحداث الرواية، تلك المدينة السوداء، المنزوعة القيم والجمال، والناضحة بالخبث والروائح الفاسدة، والدمار والفوضى، وحيث تنتفي الرحمة وقيم التعاطف، وتنتشر الأمراض والرذائل، إنها مواصفات المدينة الفاسدة، التي أصبحت رمزاً واضحاً في الأدب العالمي، المعروف بأدب الديستوبيا!

وفي جزء قصي من دماغك، تؤمن بأن هذه المدن متخيلة، لا وجود لها حقيقة، لأنك لم ترها، ولأنك تؤمن بأن قيم الخير والجمال والفضيلة موجودة، لذلك، فمدن الديستوبيا مستحيلة، أنت تظن أنك من عالم المُثُل المليء بالأشخاص الخيرين، والعلاقات الصادقة، وفجأة، تجد أنك وجهاً لوجه أمام واقع، تجرد فيه الكثير من الناس من نزعتهم الإنسانية، ليتحولوا لآلات، لا يهتمون إلا بمصالحهم، حتى وإن ضحوا بأقرب الناس إليهم، وإلى جانب فساد النفوس، فإن المدن لا تقل خراباً!

عندها تسمع سؤالاً يتردد في داخل رأسك: ما الذي يمكن أن يوقف هذه الانهيارات؟ كيف سيغدو العالم في مدن الديستوبيا، التي لطالما قرأنا عنها في الروايات فقط؟ هل يُعقل أن نشهد مثيلاً لمدينة (1984)، ونتحرك فيها؟ أو لما حدث في (فهرنهايت 451)؟ هناك عالم يحتاج من المدن والضمائر، يحتاج لإعادة نظر، وإلا، فالعالم يحث الخطى نحو تلك المدن.

Email