في مديح الإخلاص!

ت + ت - الحجم الطبيعي

من لم يقرأ للكاتب النمساوي ستيفان زيفايغ، فقد فاته، حسب رأيي، الكثير من الشغف والتاريخ وأدب الكتابة رفيع المستوى، كما فاته الوقوف أمام المعنى الهائل والمخيف لقلق الإنسان حيال أسئلة الوجود الكبرى، وعبثية الحياة، وسط الحروب والدمار، تلك الهواجس التي وقف أمامها «زيفايغ»، فلم يحتمل وطأة الحياة في ظلها، لأنه كان يؤمن بأن الإخلاص للحياة، يعني أن نحياها بأمان وسلام، دون خوف ورعب وتهديد!

الإخلاص للحياة، ذكرني هذا المعنى بأصدقاء سألوني يوماً، عن المدن التي زرتها، أو تلك التي أحلم بالذهاب إليها؟ قلت لهم ربما لم أسافر كما ينبغي لمسافر أن يكون مخلصاً لترحاله وشغفه، طالما خالط سفري ميل نحو التباهي أو العبث، إن السفر علم عظيم، لا مجرد تمضية وقت فقط، علم توجهه البصيرة، ويقود خطاه التأمل في مسارات التاريخ والجغرافيا والإنسان.

إن البصيرة نعمة كبرى، إنها إعمال للعقل بعمق في كل ما حدث، وما يحدث حولك، فقد يقودك التفكر لما يمكن أن يكون عليه الغد، كما قاد الخوف ستيفان زيفايغ، إلى نهايته المأساوية!

تذكرت ستيفان زيفايغ بكل فلسفته، وتحديداً، قصته ذات الدلالة العميقة «مانديل بائع الكتب القديمة»، التي يقول فيها «أما أنا، فقد نسيت مانديل لأعوام، أنا الذي كان عليه أن يعرف أننا لا ننتج الكتب، إلا لكي نبقى على صلة بالبشر، فيما وراء الموت، فندافع بذلك عن أنفسنا، ضد العدو الألد، ضد الزمن الذي مضى، ضد النسيان».

فمن هو مانديل؟ إنه بطل القصة العجوز، الذي ليس له من دنياه غير الكتب، مهووس بها هوساً، صار بفضله مرجعاً لكل طالب وباحث في فيينا وخارجها، يحفظ عن ظهر قلب، عناوينها وأسماء ناشريها وأسعارها: جديدة ومستعملة، ولا يكسب من ذلك غير ما يقيم الأود. عاش حياته في شغل تام عما يجري من حوله، فلم يعلم أن النمسا التي لجأ إليها شاباً، كانت تخوض حرباً ضروساً ضد بلاده روسيا، كان مخلصاً للكتب فقط!

Email