الرائحة سجل الذاكرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما نتحدث عن الأطفال والورود والأطعمة والنساء والأمهات، فإن أول ما تستدعيه ذاكرتنا هو الرائحة، حتى الأمكنة التي أحببناها وارتبطنا بها في فترة من أعمارنا ترتبط عادة بروائح تحفظها حواسنا وذاكرتنا جيداً، روائح شممناها فيها، وتسربت إلى مساماتنا، اختلطت بثيابنا، وفاحت من مسامات جلودنا، فإذا أغمضنا أعيننا هطلت تفاصيل تلك الأمكنة من زوايا الذاكرة وفاحت تلك الروائح!

رائحة الأطعمة التي تعدها النساء في مطابخ البيوت، رائحة البحر والقواقع والأسماك المجففة على رمال الشاطئ، رائحة ثياب الأمهات وأردية الصلاة التي ترتديها الجدات، والتي يضمخنها بالطيب الذي يظل يعبق أياماً فيها، رائحة القهوة وهي تحمص في المنازل وتنتشر في كل مكان، رائحة الصيادين وشباك الصيد الملقاة على أكتافهم وهم عائدون من رحلات الصيد، محلات المأكولات الهندية في سوق المدينة، الرائحة النفاذة الحادة التي تملأ المكان في نهاية الحي، حيث سوق السمك، رائحة الطيور، ورائحة القطط والكلاب وأبقار جدتي.

فلكل شيء ذاكرة تملأ حيزاً من عقولنا وأرواحنا، وفي طفولتنا البكر، تلك الطفولة التي حين نتذكرها، يتدحرج الموج في قاع القلب، وتهب روائح أسماك، ما أتذكره هو الرفاق الذين كبرنا معهم، والرجال الذين كنا نسمع تعليماتهم كما أهلنا، ومدرسة الحي الأولى.

ما أتذكره بوضوح تام هو النوارس، ثياب الصغيرات المزركشة، ثياب الجدات والأمهات العابقة بالبخور والعطور، أبواب البيوت المتلاصقة، حزم الأسماك يحملها الرجال الخارجون من مراكب الصيد.. تلك رائحتنا وبصمة ذاكرتنا الخاصة، الذاكرة التي ليست مجرد صور، وأسماء فقط، الذاكرة رائحة كذلك، بل روائح ترتبط ليس بأمكنة فقط، ولكن بمناسبات، رائحة العود والبخور ستظل عندي برهاناً على العيد ويوم الجمعة ووجود إخوتي وجدي ووجود الضيوف، ورائحة الأحذية تذكرني بمصنع الجلود الذي دخلته في إيطاليا، و… وهكذا، فإن الرائحة تمنح كل شيء هويته ووجوده وسجله الأبدي الذي يحفظه، فلا يختلط ولا يتلاشى من الذاكرة!.

Email