المدن تعيد صياغة أهلها

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تعكس المدينة روحها ونظامها على قاطنيها فقط، ولكن على أي قادم يدخلها منذ الوهلة الأولى، أما ذهنية أهلها وطريقتهم في التعامل مع الآخر، فإنهما تظلان علامة فارقة لا تنسى بالنسبة لأي شخص مر على تلك المدينة، أو عاش فيها زمناً.

يحدث هذا في مدن الشرق كما في مدن الغرب وفي مدننا العربية، وقد كنت أتحدث إلى شاب عربي قضى زمناً طويلاً في دبي وفيها تعلم وكون علاقاته وبنى ذاكرته، يعتقد هذا الشاب أن دبي حالة إنسانية أكثر من كونها مجرد مدينة عابرة في حياة أي شخص، وحالة المدينة هذه تدين بكل تجلياتها لذهنية أهلها وطبيعة قوانينها واستعدادها لتقبل الآخر، والانفتاح عليه برحابة وتسامح.

قالت لي صديقة قادمة للتو من بلدها الذي تطحنه الانقسامات السياسية والجمود السياسي والخلافات، إن الملاحظة الفارقة التي استوقفتها هي أن الناس في كل مكان لا يمارسون أي نوع من العدوانية تجاه بعضهم البعض، لأنهم جميعهم يخضعون لقانون واحد ولعدالة ثابتة، لذلك يمكن القول بثقة إن المدينة بالفعل تعمل على إعادة صياغة أهلها وساكنيها، وترفع مستوى ذائقتهم والتزامهم!

منذ زمن طويل كنت أفكر في هذه المسألة، وفي أن الجغرافيا مسؤولة بالفعل عن توجهات الناس ونبوغهم وذائقتهم، وأنه ليس من باب المصادفة البحتة أن يظهر كل هؤلاء الموسيقيين والرسامين العباقرة: بتهوفن وموتسارت وشوبان وهيدغر وفان غوخ من النمسا وسويسرا وهولندا مثلاً، ولقد تحدث ابن خلدون في (المقدمة) كثيراً عن هذه المسألة فيما يخص تأثير المناخ والجغرافيا على طباع الناس ومزاجهم ونشاطهم وحتى على أخلاقهم!

قد يكون مناخنا قاسياً لأننا بحكم قدرنا الجغرافي ننتمي لمناخ الصحراء القاسي، لكننا تمكنا بالحكمة والذكاء والأصالة والعمل الجاد والحقيقي من تحويل مدن الصحراء القاسية، وإنسان الصحراء، وطباع الصحراء الجافة، إلى حالة إنسانية مختلفة لا علاقة لها بالقسوة والجفاف، بقدر ما لها علاقة بالتسامح والرقي وتقبل الآخر، وهذا هو بالضبط ما يصنع الفرق بين مدينة وأخرى وبين مجتمع وآخر!

Email