اختراع العزلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ فترة قرأت للكاتب الأمريكي بول أوستر كتابه الشيق «اختراع العزلة»، الذي يشرك فيه كجراح حاذق تلك العلاقة الملغومة والشديدة التعقيد والملتبسة كذلك بين الأب وابنه.

خاصة حين يكون الأب في داخل الأسرة شخصاً محاطاً بالهيبة والأسرار، كثير الصمت وذا عالم يعج بما لا يعرفه الأبناء، هذه العلاقة عادةً ما تكون مربكة، ومحاطة بأسوار وهمية من التصورات غير الصحيحة، وخاصة تصورات الابن عن والده، فنحن ننظر لآبائنا بنظرة متعددة المستويات يختلط فيها الديني بالعاطفي والاجتماعي، وبالمشاعر الملحة والاحترام والخوف والاحتياج والإعجاب وغير ذلك!

حتى إذا كبرنا وتجاوزنا مرحلة المراهقة وربما الشباب كذلك، وغادرنا آباؤنا قاطعين طريق الغياب الأبدي، نكتشف إذ نجلس في صمت غرفهم مع ذكرياتهم وما تبقى منهم من صور وأوراق ومقتنيات شخصية، أننا في الحقيقة لم نكن نعرفهم بما فيه الكفاية، وقد نتجرأ ونقول إننا لم نعرفهم على حقيقتهم.

يجنح كثير من الآباء بأن يبنوا حول أنفسهم أسواراً من العزلة لأنهم عادةً ما يرزحون تحت عبء صدمات وأسرار أثقلتهم وأقضّت حياتهم لسنوات طويلة (كما في حالة والد أوستر)، فحافظوا من خلال تلك الأسوار على الأسرار المنزلية، وعلى صورتهم كما تقتضيه أسطورة الأب المتخيل التي تربوا عليها داخل الأسرة، بينما بعد بضع خطوات خارج المنزل كانت لهم صورة مغايرة، لقد كانوا آباء في البيت وأناساً عاديين جداً مع أصدقائهم وجلسائهم وحبيباتهم ربما!

هذا ما يقدمه بول أوستر، الذي مات والده بشكل مباغت ليكتشف أنه لم يكن يعرف عنه شيئاً، كان يحيط نفسه بهالة من الصمت والصرامة والعزلة، كان لا يتحدث ويغيب كثيراً عن البيت، وحين أخذ يرمم تلك الفراغات في علاقته بوالده، أسس له صورة أخرى تختلف تماماً عن تلك التي ظل يقدمها لهم طيلة حياته.

Email