مدن وسماوات لا تنتهي!

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك مدن تحبها من كل قلبك، هكذا مباشرة وبلا مقدمات تقع في غرامها من النظرة الأولى التي تقع عيناك فيها على بيوتها، تلالها الخضراء، مقاهيها الصغيرة، أضواء بيوتها التي ترصع الجبال ليلاً كنجوم في سماء بعيدة، لقد كان منظر البيوت المتراصة على جبل لبنان العابقة بالأضواء والحكايات واحداً من أكثر المناظر التي يتعلق بها قلبي .

بينما تحلق بي الطائرة في سماء بيروت مغادرة إلى دبي في تلك الأيام التي لطالما سكنت فيها ذلك الجبل وعشقت كل شيء فيه قبل أن تنقلب الدنيا ويدور دولاب الزمن نكوصاً للوراء في لبنان، كما في كثير من بلدان المنطقة العربية!

وهناك مدن لا يغادرها وقع المطر ورائحة الرذاذ والعشب، مدن تشعر أنها تكونت لتصبح منطلقاً لفرح القلب، وحيث تقرر أن تدعو من تحب على فنجان قهوة في الصباح بينما البرد يشاكس أطرافك ويثير في قلبك تلك القشعريرة اللذيذة التي لا تنسى، هذه المدن التي قد تجمعك مصادفة بصديق قديم ضاع منك وعثرت عليه أخيراً هناك، لا بد أن تقع في غرامها ثم لا تنساها أبداً، تشعر بوفاء لها في مكان في قلبك.

ومدن كلعب الأطفال، صغيرة، ملونة، ومليئة بمحلات بيع الهدايا، تسكن ذاكرتك وأنت تقطع الطريق سريعاً بخفة ومرح، تسير مع انحناءات الدرب، تركل حجراً بنزق ظاهر، وتحيي كل النساء والرجال الذين يمرون بك، ولأول مرة لا تخاف تلك الكلاب التي لطالما أثارت رعبك، تتلفت يميناً ويساراً.

حيث لا ضوضاء تقطع الشارع ولا قلق يمشي بموازاتك، تحيي شخصاً ينتظرك على تلك الطاولة ذات الغطاء الأحمر الموشى بأزهار ونباتات صغيرة خضراء، وفراشات صفراء وزرقاء، تفتحون باب الثرثرة والضحك، ثم يمضي نهر الزمن كمخمل دافئ أو كشال صبية، يلفكم بهدوء لا نهاية لعمقه.

هناك مدن تحب مجدها الغابر ربما، ومدن تحب ضجيجها الظاهر، ومدن تستقر روائح أسواق البهارات والحلويات والأسماك، وأصوات النوارس، وبائعي الكستناء والذرة المشوية في بالك، فتحن لتلك الروائح والأصوات أبداً، ومدن لا تجالس فيها سوى نفسك، فكأنك تطل على العالم من نوافذها الصغيرة، هناك مدن تزورها في الشتاء، ومدن تزورها في الخريف، ومدن تود أن تنام فيها ليلة اكتمال القمر بدراً كي ترقبه وهو يسافر في لجة الليل ساحراً كخرافة، بينما لا شيء يتغير فيها، وكأن الزمن عالق كقطرة مطر تجمدت في الطريق بين السماء والأرض!

Email