مَنْ يُنقذ مَنْ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن «غزة‬⁩ باتت مقبرة للأطفال، ولا يوجد طرف فوق القانون الدولي».

وصيحة الفزع التي أطلقها غوتيريش تتجاوز في ما يبدو ما يحدث في غزة والضفة الغربية لتشكل تحذيراً جديداً من الأخطار الحقيقية التي أصبحت تهدد المنظومة القانونية والمؤسسات الأممية التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهو يعي تماماً حالة العجز التي أضحت عليها منظمة الأمم المتحدة وأن القاعدة أصبحت انتهاك القانون.

وجاءت تحذيرات الأمين العام للأمم المتحدة لتؤكد أبشع الحقائق وهي عجز المنظومة الأممية عن حسم النزاعات وفرض مقتضيات القانون الدولي ضد دول تغوّلت بفعل فوضى وانخرام التوازن في العلاقات الدولية أو ضد دول مارقة وضاربة عرض الحائط بمجموعة القواعد القانونية والإنسانية المشتركة.

وعلى الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة فشلت نسبياً في تجنّب حدوث النزاعات وتحقيق الأمن والسلام وهو الهدف الذي من أجله بعثت، فإنها تمكنت على الأقل من الحدّ منها في مناطق عدة من العالم عن طريق بعض الآليات التي تمرّ حتماً عبر مجلس الأمن الدولي الذي يأمر بنشر قوات حفظ السلام ويفوّض لها هذه المهام.

وقوات حفظ السلام أو ما تعرف بأصحاب القبعات الزرقاء يعملون على «تنفيذ اتفاقيات السلام، وتعزيز الديمقراطية، ونشر الأمن والاستقرار، وتعزيز سيادة القانون، والعمل على دفع عجلة التنمية والعمل على تحقيق حقوق الإنسان» وذلك شريطة موافقة أطراف النزاع والتزام الحياد وعدم اللجوء إلى القوة إلا في حالة الدفاع عن النفس.

وإذْ نعيش حالة ضعف وهوان المنظومة الأممية نتيجة تراكمات ممارسة سياسة اختلاف المكاييل وعدم الحزم في مواجهة الدول المارقة، فإنه لا بد من التذكير بالطابع الشامل لعمل الأمم المتحدة والذي لا يقتصر على إدارة النزاعات المسلحة، وإنما أيضاً يتعداها للاهتمام بالقضايا التنموية وحقوق الإنسان ومسائل الغذاء والتجارة والتعاون التكنولوجي وكل ما يتعلق بنواحي الحياة.

ولا ينبغي نسيان أن مجموعة القواعد والمؤسسات المشتركة بين الدول والمجتمعات مثل يونسكو والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومحكمة العدل الدولية والوكالات الدولية المختصة، جاءت نتيجة توازنات معينة في العلاقات بين الدول بعد الحرب العالمية الثانية وهي بالأساس في خدمة الأطراف الضعيفة التي ناضلت في مختلف الأطر الإقليمية والدولية على مدى عقود ومارست ضغوطاً كبيرة من أجل تحقيق هذه المكاسب، وساعد على ذلك مناخ توازن الرعب نتيجة الحرب الباردة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والدول الحليفة للاتحاد السوفييتي السابق وما بينهما حركة دول عدم الانحياز التي استفادت ما أمكن من التناقضات بين الحلف الأطلسي وحلف فرصوفيا.

إن المنظومة الأممية الحالية على نقائصها ثمرة عمل ونضالات ومجهود

إنساني منذ أحقاب من أجل الوصول إلى منظومة قانونية دولية وتنموية شاملة ومتكاملة شملت كذلك قانون الحرب فقد وقع تطويره منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وما يحدث في غزة تحديداً من انتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، يؤكد مرة أخرى الحاجة إلى منظومة قانونية دولية شاملة يحتكم إليها الجميع بالضرورة وتفرض سطوتها على كل الأطراف المتنازعة وتمثل إلى ذلك ملاذاً آمناً للأطراف الضعيفة من أجل نيل حقوقها المشروعة، ومن أجل تحقيق الأمن والسلم والنماء العالمي.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش نطق بما نطق تحت تأثير هول الانتهاكات التي طالت المدنيين في غزة والضفة الغربية وما سببته من مآسٍ إنسانية دفعته إلى القول إنّ الأمر تجاوز ما يحدث في غزة والضفة وأصبح يتعلق «بمأساة الإنسانية».

الأمين العام للأمم المتحدة يعي تماماً طبيعة المتغيرات على صعيد العلاقات بين الدول، وهو على وعي بأن العالم في مرحلة تحولات كبرى قدّر الرئيس الأمريكي جو بايدن أنها تحدث كل ستة أو سبعة أجيال.

والعالم يعيش مرحلة ضَعُفَ فيها الجميع ولم تعد أي دولة باستطاعتها فرض أي شيء على دولة أخرى، فقدت أمريكا ريادتها وسطوتها على العالم ولم تستطع معه فرض كلمتها حتى على إسرائيل التي تدين لها بكل شيء، وتشتّت العالم من جديد إلى أحلاف وأقطاب متنوعة المقاصد والأهداف والطبيعة وتفاقمت النزاعات وانتهاكات القانون الدولي، ولم يعد الأمر يتعلق في تقديرنا بإيجاد حلول لمسائل إنسانية عاجلة أو دائمة، المشكل لم يعد أخلاقياً بل استراتيجي بامتياز ويهدد بالفعل مستقبل البشرية، وإن مهمة الإنقاذ هي كما نرى «فَرْضُ عَيْنٍ».

Email