فرق أن تكتب لغاية نبيلة أو لتنتقم

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن البعد الجديد في كتابة المذكرات الشخصية، هو البعد الانتقامي، إن جاز التعبير، فالإنسان قد يلمع نفسه في المذكرات التي يكتبها، وفي الوقت نفسه، قد يصفّي حساباته مع أشخاص آخرين، حيث ينتقم منهم بطريقته الخاصة. وتكتب المذكرات عموماً، إما تطلعاً إلى هدف حميد وغايات نبيلة، أو خوفاً من أشياء نسبة احتمالاتها مرتفعة، لعل على رأسها آفة العلم المعروفة، النسيان، فهو يقلق العديد من الكتّاب، على اختلاف مجالات، والسياسيين منهم خاصة، فأولئك يمكنهم أن يلمعوا سمعتهم، ويصفّوا حساباً أو حسابين، وربما يضخموا رصيدهم المصرفي، فليس من النادر أن يتلقى مشاهير الساسة سُلفاً مالية، قد تصل إلى 8 ملايين دولار، لإتمام كتابة مذكراتهم، كما أورد الكاتب (ستيفن فاينمن) في كتابه (الانتقام). ويكفي مثالاً في سياق الإيرادات، كتاب (حياتي) 2004 م، لبِل كلينتون، الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة. الذي حصد في طبعته الأولى تسعة ملايين دولار. ومن نافلة القول، إن المذكرات تكتب تاريخ الشخص، وتاريخ الأشخاص الذين عايشوه، في المرحلة الزمنية التي يتم الحديث عنها. هنالك العديد من الكتّاب العالميين الذين كتبوا في شأن المذكرات، وصفاً كانت تلك الكتابة، أو تعليقاً، أو كيفية كتابة، وحتى عن آلية البوح، إن جاز التعبير. منها ما ورد في رواية (في قبوي) للكاتب ديستوفسكي، الذي كتب يقول: (إن بين الذكريات التي يختزنها كل منّا، ذكريات لا نرويها إلاّ لأصدقائنا، وإن بينها ذكريات أخرى لا نعترف بها حتى لأصدقائنا، ولا نرددها إلاّ على أنفسنا، بل ولا نرددها على أنفسنا إلاّ سرًا. ولكن هنالك ذكريات أخرى، يرفض الإنسان حتى أن يعترف بها لنفسه). على الرغم من أن ديستوفسكي (1881-1821)، يجد في (أولئك الذين لم يصفعوا من الحياة في يوم من الأيام، لن يفهموا منها شيئاً البتة). وبالتالي فإن كتابتهم تأتي الحكمةً فيها أقل نسبياً. وفي الرواية ذاتها، يرى أنه (ما لم يكن القلب صافياً طاهراً فلا يمكن أن يكون الوعي بصيراً ولا كاملاً!). 

عندما يوشك المرء على الدخول، في مرحلة زاهية من حياته المتبقية، التي سمّاها أحد الظرفاء (شباب الشيخوخة)، فهو يكون بذلك، وبمعنى من المعاني، في عداد من أصبحوا تراثيين؛ يجمع في نفسه ماضي الزمان إلى حاضره، ويتطلع إلى المستقبل ليحوز على وقت كاف ومعقول، أو على حيز واسع ومديد. لكنه وهو كذلك يمتلك من القدرات والتجارب المتميزة، ما يؤهله القيام بأعمال عديدة وذات جدوى، بعضها لها طبيعة نوعية أيضاً، وفي ميادين متعددة. إن جودة تلك الأعمال التي بمقدوره القيام بها، تتوقف بالدرجة الأولى على صحته البدنية، والنفسية، وعلاقته الوطيدة بالمزاج العام، والمزاج الابتكاري على وجه الخصوص، لتأتي من بعد ذلك في الأهمية، البيئة الاجتماعية المحيطة، ومن ضمنها الأسرة المتناغمة، أو أقله، الأسرة الهادئة، كونها الخلية الأساسية في البناء الاجتماعي، والإنساني. كل هذه العناصر متى اجتمعت في شخص - يعيش مرحلة عمريّة متقدمة من حياته - فلسوف يكون بمقدوره تحقيق ما يريد أن يكونهُ، ويرغب بتحقيقه، سواء لذاته أو للآخرين في محيطه، وقد يتعدّى في عطائه إلى كامل المجتمع، والوطن، وإذا ما حالفه الحظ السعيد، فسيصل أثر أعماله الخيّرة (والمبتكرة) إلى العالم بأسره، أو إلى أجزاء واسعة منه.

من ضمن تلك القدرات والخبرات، كتابة الماضي بملئ الوضوح، والدقة، والموضوعية.. الماضي الذي ما هو إلاَّ التاريخ ذاته؛ كل ما انتجته من معلومات وأفكار ورؤى وقصص وممارسات وأفعال وأحداث، في شتى جوانب الحياة، وما كنت تملكه من آمال وأحلام وتطلعات، بعضها تحقق، وآخر لا تزال تحمله معك، وما شهدته من أحداث وقعت وانقضت، لكن بعضها تجدّد ليتقدم معك، كظلك في الزمن الذي تقطع. هذه كلها هي الماضي الذي يمكن، إن شئت، سميته تراثاً أو سميته أثراً أو تاريخاً، في مختلف المجالات والميادين، على تنوّع أحداثه ومعطياته ودوافعه وفضاءاته، كل ذلك ممكن، وقد يكون يسيراً، مجرد رحلة لكنها ممتعة وشائقة، لكاتبها وقرائها، جيلا بعد جيل.

Email