تقديس ومقدسات

ت + ت - الحجم الطبيعي

 أنا من الذين يعتقدون أن أحد أهم العناصر الرئيسية لنجاح الإسلام كدين عالمي هو ارتكازه على العقل والمنطق، فالقرآن الكريم جاء إعجازه من خلال حضه الدائم لنا على استنباط الحلول من التفكير، والانتصار على المعوقات عبر الانتصار على الإحباط الداخلي في نفوسنا... فالله سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

الدين الإسلامي لم يفرض بالسيف رغم كل ما يقال، بل بالحجة والتمييز فالإدراك فالاقناع، والدليل أن كثيرين جدا بقوا على معتقداتهم سواء الوثنية أو من أهل الكتاب بعدما اختلطت في تلك الفترة عمليات الاستقطاب والنصرة على أسس اجتماعية وقبلية أيضا.

... «فذكّر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر»، و«لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»... «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها»... إذاً، الله سبحانه وتعالى نهى عن الاكراه في الدعوة وأمر بقول الحق والتذكير ثم ترك الخيار للناس وبالتالي مواجهة مسؤولية قرارهم.

نقول هذه الكلام لأن رب العزة خالق هذا الكون أمر رسوله والمؤمنين بممارسة قناعاتهم على قاعدة الثواب والعقاب وعدم فرض هذه القناعات على الآخرين الذين هم أيضا في ميزان الثواب والعقاب. وهذه القاعدة الفكرية السمحة في الاسلام هي التي صنعت الانتشار العظيم للدين، وسمحت بالتالي لكل الطاقات المسلمة بان تنشغل في ما أمرها الله به من علم وتقدم واتقان مفردات كل عصر، فكانت الانجازات والاختراعات والاكتشافات التي حفظها العالم قبل أن تتغير نفوس المسلمين وأفكارهم وهو الامر الذي مازلنا نحصد نتائجه حتى يومنا هذا... تخلفا على كل الأصعدة.

رب العزة والجلالة يأمرنا بالحوار والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة وتقبل الآخر واتقان لغة كل عصر والتقدم في كل المجالات العلمية والحضارية وتنمية مكارم الأخلاق وقيم العدل... وبشر عاديون (واستغفر الله العظيم مليون مرة) يريدون إسباغ صفة القداسة على أنفسهم فيصنّفون الناس ويأمرون بالغاء من يخالفهم الرأي ولو كان على ملة محمد، صلى الله عليه وسلم، ويحضرون الاجواء للاغتيال الجسدي او المعنوي، ويستحضرون الاعذار للقاتلين.

 هؤلاء ينتشرون كالسرطان في الجسد الاسلامي الكبير والمتعب. يغسلون العقول للادعاء بوجود كرامات خاصة لهم، بعضهم مقتنع بما يفعل ويترجم الدين حسب فهمه وبعضهم الآخر مريض جاهل معقد قاصر عن النظر الى الدنيا الا بعين عجزه فيخطب ويحاضر بطريقته ويجد النشوة الكبرى في إصغاء اتباع محبطين من قذارة السياسة وسوء الاحوال الاجتماعية وغياب العدل عموما وانحياز الاقوياء في العالم الى المجرمين المحتلين لارضنا والمنتهكين لكراماتنا.

انتقلت القداسة في عصرنا الحالي من طابعها الرسالي الانساني العالمي الحضاري إلى ممالك اخرى صغيرة شكلت الخزان الحقيقي للتطرف. هذا الزعيم «مقدس» لذلك يجب ان يعشقه الناس الى درجة العبادة (والعياذ بالله) وأن يبايعوه «بالروح والدم» وتاريخنا العربي مليء بعمليات اغتيالات طالت مهاجمين لهذا الزعيم او ذاك النظام.

وهذا الشيخ «مقدس» وعنده كرامات ويدعي هو وانصاره انه يتلقى توجيهاته من الانبياء والاولياء وتأتيه اشارات سماوية وتاريخنا الحالي مليء بالتصفيات لمن فكر في انتقاد الشيخ كونه ينتقد «المقدسات» التي يمثلها.

ثم تنتقل «المقدسات» من الزعامات الى الممارسات والمؤسسات، فهنا زعيم يعتبر احتلاله دولة جارة فعلا ايمانيا والانسحاب منها كفرا، وهنا مسؤولون في مختلف المراتب يشيعون اجواء ومناخات ترتقي بهذه المؤسسة او تلك الى مرتبة القداسة.

أخطر ما في الغاء العقل لمصلحة تقديس أمور دنيوية لا علاقة لها بالقداسة هو سيادة التطرف واستسهال فكرة الغاء الآخر طالما ان هذا الالغاء لم يعد جريمة بل هو شرف وربما «جهاد»، اي إنْ قاتل اعلامي لمصلحة زعيم عربي يعتقد انه دافع عن المقدسات القومية ودخل التاريخ وقاتل كاتب او شخصية سياسية لمصلحة نظام ديني او زعيم ديني يعتقد انه دافع عن المقدسات الدينية وسيدخل الجنة.

الله جل جلاله هو من أمرنا باستخدام عقلنا لا غرائزنا. تقديسه بالنسبة لنا كمسلمين ومؤمنين هو الاعتدال وتقديس ما هو دونه هو التطرف... عسى أن يصل صوتنا الى من امتلأت آذانهم بالصمم وعيونهم بالظلام.

Email