النقلة النوعية التي شهدها النشاط الإرهابي- الذي كان قاصراً على عمليات إرهابية محدودة في الماضي القريب- تُشكل أساساً لتلك التحديات المعاصرة، التي تواجه التصدي للإرهاب حول العالم، بداية من التطور الذي شهدته التنظيمات الإرهابية (في الفكر والتخطيط والتنظيم المؤسسي والتمويل) وحتى التقنيات الحديثة والترسانة الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تستخدمها تلك التنظيمات، مروراً بسلسلة من التغيّرات الجوهرية، التي تفرز تحديات خاصة أمام عمليات التصدي للإرهاب، من بينها تطور الفكر الاستراتيجي لتلك التنظيمات من مجرد الاعتماد على عمليات خاطفة هنا وهناك، إلى العمل على خلق «دولة الإرهاب» والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي وتوظيف مواردها، في خط متواز مع التطور النوعي اللافت في الأسلحة والمعدات والموارد البشرية متعددة العرقيات.

صاحب ذلك التطور النوعي تطور تكنولوجي هائل خلق ساحات ملائمة لنمو وتغلغل تلك التنظيمات في بيئة خصبة لنشر أفكارها ومعتقداتها، كما صاحبه أيضاً بزوغ دول إقليمية عملت على توظيف الإرهاب لصالحها واستخدامه كـ«تجارة» لتمرير مطامعها الخاصة، فعملت على دعم وتمويل الإرهاب وارتبطت بعلاقات مباشرة معه، وذلك في ظل عدد من العوامل التي فتحت الطريق أمام تلك التطورات بداية من المتغيرات الإقليمية والدولية بعد أحداث 11 سبتمبر، وكذا المتغيرات الداخلية في عدد من الدول بعد ما يُسمى بـ«الربيع العربي» والأزمات الداخلية وحالة الفوضى التي شهدتها وتشهدها عدد من دول المنطقة من منطلق تزايد الغضب الداخلي سواء جراء الظروف الداخلية- لا سيما الاقتصادية الصعبة في بعض البلدان- وحتى المخططات الغربية، وحروب الجيل الرابع، والشيخوخة التي أصابت منظمات دولية وإقليمية معنية بنشر الأمن والسلم.

«دهاليز» التكنولوجيا

ولربما المحور الأكثر بروزاً في مسألة التحديات المعاصرة التي تواجه التصدي للإرهاب، هو ما يرتبط بالتطور التكنولوجي الهائل الذي وفّر للتنظيمات الإرهابية بيئة خصبة لاستقطاب عناصر جديدة أو تنفيذ عمليات إرهابية بالاستفادة من تطورات تقنية معينة أو من معلومات متوافرة عبر الوسائل التكنولوجية، وهو ما يعد ضمن أبرز التحديات المعاصرة التي تواجه استراتيجيات مكافحة الإرهاب حول العالم، بخاصة في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة والتطور الواسع في هذا المجال، والذي أتاح ويتيح للتنظيمات الإرهابية فرصاً جديدة لتطوير نفسها واستراتيجياتها وعملياتها المختلفة.

ويعتبر خبير أمن المعلومات وخبير مكافحة الجرائم الإلكترونية والإرهاب الإلكتروني بالأمم المتحدة الدكتور محمد الجندي، لدى حديثه مع «البيان»، مسألة استخدام الإرهاب للتكنولوجيا- بشتى أنماطها وأشكالها- تحدياً معاصراً هو الأبرز على الإطلاق أمام مكافحة الإرهاب، لا سيما أن «التكنولوجيا مربكة على الأصعدة كافة، وصارت مُتاحة أمام الجميع وتتطور باستمرار على شتى الأصعدة المختلفة، سواء الإنترنت أو التقنيات التكنولوجيّة المختلفة، من بينها تقنيات الأسلحة والمتفجرات والطائرات من دون طيّار، وحتى وسائل جمع المعلومات الإلكترونية.. إلخ».

ولا يخفى حرص وشغف التنظيمات الإرهابية باستخدام التكنولوجيا وتوظيفها لصالحهم لتطوير استراتيجياتهم، حتى إنه مع دخول الإنترنت إلى مصر بدأ معه استخدام التنظيمات الإرهابية له في حقبة التسعينيات من خلال الجماعة الإسلامية «صحيح لم يحظوا بالانتشار الواسع، لكن بعد ذلك تطور الأمر وبدأت الحقبة التي شهدت بداية الاستخدام المكثف للإنترنت من قبل التنظيمات الإرهابية بعد سقوك طالبان»، بحسب الجندي.

تلعب تلك التنظيمات على وتر التكنولوجيا لإدراكها الكامل بأن المجال متسع وتصعب السيطرة عليه بصورة كاملة. ومن هنا يقول الجندي: «المكافحة والتصدي في هذا الصدد ليست لها طرق واضحة وشاملة تضمن التصدي الكامل للإرهاب واستخدامه للتكنولوجيات الحديثة.

المسألة غير ممسوكة أو محكومة (بالمقارنة بعمليات مكافحة الإرهاب على الأرض)، علاوة على أنها بحاجة إلى قدرات كبيرة تفتقدها الكثير من الدول، فضلاً عن كلفتها الباهظة»، وجميعها أمور تجعل المجال مفتوحاً لتكون التكنولوجيات الحديثة متنفساً ومرتعاً للتنظيمات الإرهابية تتحدى به جهود مكافحة الإرهاب على الأرض، فكم من العمليات الإرهابية التي تم استخدام معلومات متاحة عبر الإنترنت أو وفرتها التكنولوجيا الحديثة فيها، بما يوفر «دهاليز» للإرهاب يستطيع أن ينفد منها متحايلاً على عمليات المكافحة.

تجارة الإرهاب

الإرهاب وبمفهومة التقليدي ينبع أساساً من أيدلوجية متطرفة تتبناها التنظيمات الإرهابية وأفرادها، حتى تحوّل- ويمكن هنا التطبيق على أكثر من نموذج- إلى نوع من التجارة، ودخلت دول على خط المُتاجرة بالإرهاب واستخدامه كـ«بيزنس» خاص، وهو ما يندرج ضمن التحديات المعاصرة أمام مسألة التصدي للإرهاب، يعززه عدم الاتفاق على مفهوم موحد للإرهاب والدول الراعية له وسبل التصدي إليها.

«الإرهاب تحوّل إلى تجارة بالنسبة لبعض الدول، وعلى رأس تلك الدول- حسب ما تكشفه الكثير من الوقائع والأدلة الدامغة- كل من تركيا وقطر»، حسب خبير مكافحة الإرهاب الدولي العقيد حاتم صابر، والذي يقول لـ«البيان»: إن ذلك يتزامن مع إشكالية خاصة تكمن في عدم وجود تعريف موحد أو اتفاق على الإرهاب ومكافحة الدول الداعمة له، وبالتالي فإن الدول الداعمة للإرهاب- والتي تستخدمه كبيزنس خاص- ستظل من المعوقات التي تواجه التصدي للإرهاب حول العالم.

تحول الإرهاب إلى تجارة تستخدمه بعض الدول أسهم في ضخ مالي غير مسبوق من قبل دول بعينها (مثل قطر وتركيا) للأفراد والجماعات الإرهابية، ولو انقطع التمويل عن تلك الجماعات والعناصر سيكونون جميعاً في مأزق، وبالتالي التحدي الأبرز في ذلك الإطار هو كيفية مواجهة الدول الداعمة للإرهاب، والاتفاق على إطار موحد لمواجهتها، كما يقول صابر.

وفيما تتداخل المصالح السياسية والتجاذبات ذات الصلة أو المواءمات والعلاقات الاستراتيجية بين الدول في الحد من مسألة مواجهة الدول الداعمة للإرهاب يظل- تجارة دعم ومساندة الإرهاب- رائجاً من بين أبرز التحديات التي تواجه عملية التصدي بشكل جدي للإرهاب الذي يضرب العالم أجمع.

وقطر مثال على ذلك فهي التي ترتبط بعلاقات وطيدة مع الجماعات الإرهابية تُؤكدها العديد من الأسانيد والأدلة، من بينها اعترافات المتهمين من العناصر الإرهابية في مصر فضلاً عن الصفقات التي أبرمتها مع تنظيم جبهة النصرة في سوريا والمبالغ المالية التي قدّمتها الدوحة للتنظيم هناك، فضلاً عن الصفقات التي رعتها قطر هناك مع تلك الجماعات، وكلها قرائن مؤكدة لاستخدام الإرهاب وتوظيفه من قبل دول بعنيها.

ومن أحد أوجه استخدام الإرهاب كـ«تجارة» بخلاف توظيفه من قبل دول بعينها، ما يتعلق بالتحاق عدد من الشباب والمراهقين بالتنظيمات الإرهابية من أجل «كسب المال»، وهنا توظف تلك التنظيمات الإرهابية أذرعها الإعلامية النشطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في إغراء المراهقين- استغلالاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الصعبة التي تعاني منها عدد من دول المنطقة بصورة خاصة- بالمال بصفة خاصة وتطميعهم في تحقيق ثروة من «غنائم المعارك» على حد تعبيرهم، ذلك في خط متواز مع عمليات غسيل الأدمغة بالخطاب الديني المتطرف.

وهنا وبالعودة لحديث صابر، فإن من بين أبرز التحديات والعقبات المعاصرة فيما يرتبط بالتصدي للإرهاب مسألة «الترسانة الإعلامية» الموجهة والممولة مخابراتياً لتلك التنظيمات الإرهابية، وهي ترسانة تعرف كيف تدير مواقع التواصل وكل ما يوليه الشباب اهتماماته، ذلك أنه يتم توظيف تلك المواقع لإغراء الشباب وتجنيدهم واستقطابهم، وهي محور رئيسي في استراتيجية تلك التنظيمات وعملهم التخطيطي والتنفيذي المعاصر.

ومن بين أبرز ملامح التطور النوعي للإرهاب والتي تندرج ضمن التحديات المعاصرة مسألة «التمويل والدعم المالي»، فبخلاف تحوّل تمويل التنظيمات الإرهابية بشكل ذاتي من أفراد تلك الجماعات ورجال الأعمال المنتمين إليها كما كان عليه الحال من قبل تحوّل الدعم إلى إطار أكثر قوة من خلال دعم دول بعينها للإرهاب، وأيضاً من خلال اعتماد الجماعات الإرهابية على «التمويل الذاتي» من خلال توظيف واستغلال ثروات الأراضي التي تسيطر عليها تلك الجماعات، من بينها آبار النفط وغير ذلك، وبالشراكة مع مؤسسات ودول داعمة للإرهاب تستفيد من ذلك.

طفرات استراتيجية

وهنا يضيء الباحث في شؤون الحركات المتطرفة خالد الزعفراني، في حديثه مع «البيان»، على ذلك التحدي بعقد مقارنة مختصرة بين تمويل الإرهاب في فترة الثمانينيات على سبيل المثال وتمويل الإرهاب حالياً، فسابقاً كانت العناصر الإرهابية تعتمد أساساً على عمليات الهجوم والسطو على محال الذهب أو التبرعات الداخلية أو من الأثرياء من بعض الدول من الذين يدعمون تلك الجماعات على أساس أيدولوجي متطرف، بينما في الوقت الراهن تطور الأمر كثيراً، حتى إن الإرهاب صار مدعوماً من دول إقليمية بعينها، سواء من خلال مساندة تلك الدول بتقديم دعم مادي للإرهاب أو من خلال شرائها النفط أو أي من موارد وثروات المنطقة التي يسيطر عليها الإرهاب بأسعار زهيدة، كما حدث في سوريا والعراق من قبل تنظيم داعش الإرهابي مثلاً.

وعلى رغم أن كثيراً من تلك التحديات المذكورة ثمة جهود واسعة للتعامل معها من خلال عمليات التصدي والمكافحة، بعضها أتى بثماره في إطار تضيق الخناق على التنظيمات الإرهابية، إلا أن التحديات التقنية بشكل خاص يظل التعامل معها أمراً تلفه الكثير من الصعوبات على رغم الجهود المبذولة في التصدي للنشاط الإرهابي عبر الإنترنت والحد من وصول التكنولوجيا لتلك التنظيمات.

أكاديمي لـ «البيان »: تحديات تقنية وغير تقنية تواجه مكافحة الإرهابيين

يلخص عضو الأكاديمية الأمريكية للطب الشرعي استشاري الأدلة الرقمية الدكتور عبدالرزاق المرجان، أبرز التحديات المعاصرة التي تواجه مسألة التصدي للإرهاب في نقطتين رئيسيتين وهي تحديات غير تقنية، وأخرى تقنية، مركزاً على تلك التحديات التقنيّة بصفة خاصة.

ويفند المرجان لـ«البيان» بشكل مفصل التحديات التقنية التي تواجه التصدي للإرهاب، وأولها مرتبط بتسهيل استضافة المواقع الإرهابية في الدول الغربية، إذ إن أحد أهم أسباب انتشار الفكر المتطرف والمواد الإرهابية عبر الإنترنت وخوادم شركات التواصل الاجتماعي هي حصانة هذه الشركات من الحكومة الأمريكية، إذ تمنح أميركا شركات التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي حصانة شاملة لشركات وبرامج التواصل الاجتماعي من مسؤولية المحتوى المتواجدة في خوادم الشركات عن طريق قانون آداب الاتصالات في أميركا «the 1996 Communications Decency Act».

ولتهاون «يوتيوب» من حذف المحتوى المتطرف، استفاد منفذ عملية إرهابية في بريطانيا من التدرب على كيفية بناء العبوة الناسفة والتخطيط لها من مقاطع «يوتيوب»، وكانت النتيجة الدموية وقوع الحادثة الإرهابية في نهاية حفلة أريانا غراندي في مانشستر ببريطانيا وراح ضحيتها 22 شخصاً.

ثاني تلك التحديات التقنية استخدام التشفير واحتكار المعلومات الإرهابية؛ إذ سخرت الشركات الأمريكية أرضية خصبة للإرهابيين بتبادل المعلومات في بيئة مؤَمنة وبالذات في الإنترنت المظلم (the dark web) و«تليغرام».

هذه الخاصية صعبت كثيراً على الحكومات تتبع أنشطة الإرهابيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لصعوبة استخدام برامج الأدلة الرقمية لتتبع أنشطة الإرهابيين عبر الإنترنت عن طريق الشبكة، وعدم تعاون شركات التواصل الاجتماعي مع الحكومات في تبادل المعلومات للحسابات المتطرفة فيما يتعلق بتحديد المواقع والرسائل الخاصة.

أما التحدي الثالث ضمن التحديات التقنية ـ طبقاً للمرجان ـ مرتبط بعدم وجود تعاون دولي في مكافحة الإرهاب الإلكتروني، إذ مازالت كثير من الدول غير جادة في التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المعلوماتية.

وهنا يأتي الدور السلبي للأمم المتحدة والتي لم تقم بدورها في مكافحة الإرهاب الإلكتروني، مع عدم وجود مؤشرات خاصة بالأمم المتحدة لتوضيح نسب تطبيق الدول لاستراتيجية الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.

ويأتي فشل الخوارزميات والتقنيات المستخدمة من قبل شركات التواصل الاجتماعي لحذف المحتوى المتطرف من بين التحديات، على أساس أن الأدلة الرقمية وأنشطة شركات التواصل الاجتماعي تؤكد أن هذه الشركات لا توجد لديها خوارزميات لاكتشاف المحتوى المتطرف بل مازالت تستخدم السياسة الانتقائية في حذف المحتوى المتطرف عن طريق البشر وليس التقنية.

ويقول استشاري الأدلة الرقمية إن أكبر فشل سجل للشركات التواصل الاجتماعي باستخدام الخوارزميات هو فشل «تويتر» في كشف حساب المتطرف الذي تسبب في قتل المصلين في نيوزيلندا وأصدر عدة تغريدات متطرفة وصلت إلى 63 تغريدة.

وفشل تويتر في كشف تغريدة إعلان المتطرف الهجوم على الغزاة وأنه سوف يقوم بنشر الهجوم مباشرة على فيسبوك، والذي فشل أيضاً بالكشف عن الفيديو عند نشره على خوادمه.

ويعتبر استخدام التقنية الحديثة من أبرز التحديات، على اعتبار أن التقنيات الحديثة كاستخدام تقنية الدرونز (طائرات من دون طيار) والسيارات من غير سائق والذكاء الاصطناعي تخلق تحديات أمنية جديدة خاصة في حالة تفوق الآلة على العقل البشري ولن يحتاج الإرهابيون إلى حزام ناسف بل يحتاجون إلى متخصصين في هذه التقنيات. وهنا ستتحول الحروب إلى حروب إلكترونية مفتوحة وهو ما يدخلنا في حروب الجيل الخامس والتي سوف تتوجه إلى الهجمات السيبرانية والمؤسسات المدنية واستقطاب الشباب والنساء لمواجهات حكومتهم.

ثلاثة عناصر أساسية

التحديات غير التقنيّة أوجزها المرجان في ثلاثة عناصر رئيسية، وهي (عودة الإرهابيين من مناطق الصراع إلى دولهم بعد أن تم تجنيدهم عن طريق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وعن طريق تسويق القنوات الفضائية الأجنبية لقوة داعش، إضافة إلى رفض بعض الدول استقبال مواطنيهم العائدين من داعش وسحب جنسياتهم، فضلاً عن عدم وجود آلية للتعامل مع الأجيال الجديدة للإرهابيين من أطفال ونساء والذين عاشوا وترعرعوا في مناطق الصراع.