نار الانقسام وقودها المصالح وحطبها الشعب الفلسطيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

خريطة المصالحة الفلسطينية لا تعرف لها حدوداً، وباتت ملامح فشلها منذ الجولات الأولى تتفشى في محافظات البؤس ومخيمات التهميش. ومع استمرار الانقسام، فإن حالة سوداوية قاتمة تغطي الواقع الفلسطيني، وهي أشد سواداً عن السنوات الـ12 السابقة في ملف المصالحة التي تراوح مكانها، ومع استمرار نار الانقسام يبقى الشعب الفلسطيني حطب هذه النار.

ويبدو أن هذا الملف سيبقى مفتوحاً إلى إشعار آخر، في ظل عدم إنجاز أي جزء منه على أرض الواقع وتباعد الرؤى وكيل الاتهامات من كل طرف للآخر، وعودة التصعيد الإعلامي بين طرفيه «فتح» و«حماس»، وهذا ما فاقم حجم الإحباط لدى الفلسطينيين الذين علقوا آمالاً كبيرة على إغلاق هذا الملف الثقيل، والخروج من الأزمات المتلاحقة الاقتصادية والسياسية وتقوية الجبهة الفلسطينية في الوقوف أمام «صفقة القرن».

الشارع الغزي، بات التشاؤم على سكانه سيد الموقف، ومع كل فشل لجولة من الجولات يتلاشى كل بصيص أمل بغد أفضل للسكان، ومع هذا تتزايد المخاوف من شن إسرائيل عدواناً جديداً على القطاع مع الحديث عن قرب الانتخابات الإسرائيلية.

الشارع الغزّي يطلب من حركة «حماس» التي تسيطر على القطاع، إخراج القطاع من الأزمات التي يعاني منها مليونا إنسان، إلى جانب تحمل مسؤولياتها والإنفاق على غزة وأهلها، إذ مل الشعب من الشعارات الخطابية الرنانة من دون خطوات حقيقية لتطبيق المصالحة وتغيير الواقع المرير من خلال تحسين الظروف المعيشية وفتح المعابر ليتمكن الناس من توفير متطلبات الحياة البسيطة لعائلاتهم، بعد أن أصبح همهم الوحيد توفير لقمة العيش.

المعطّل الأساسي

علاء أحمد يعتبر أن المعطل الأساسي للمصالحة هي «حماس» التي تبحث فقط عن مصالحها السياسية، وقال إنها «فصيل يغني على ليلاه»، مضيفاً: تباً لكل القادة والساسة الذين لا يفكرون إلا في أحزابهم وينسون الوطن، وأوصلوا الناس إلى هذه الحال من الفقر والبؤس، نحن لا نشاهد في غزة إلا العذاب والعوز، ويخرج علينا أحد القادة على شاشة التلفاز يحدثنا عن الصمود والصبر وهو يتمرّغ في النعيم ويركب السيارات الفارهة، ويخرج آخر على المنبر يطلب من الفقراء أن يضحوا من أجل فلسطين والقدس على حدود غزة، في وقت يقومون ببيع الوطن من حيث يعلمون أو لا يعلمون ليعيشوا في بذخ ويتركوا البؤساء في بؤسهم.

وفي السياق يحمّل الشاب يحيى جبر (29 عاماً) حماس مسؤولية تعطيل المصالحة، موضحاً أن عدم إنجازها رغم كل التدخلات والحوارات أدى إلى تدمير أحلام الشباب وآمالهم الكبيرة.

يحيى مثله مثل باقي شباب غزة، لم يجد سوى العجز والفقر بسبب الانقسام وبدل أن يتزوج ويعيل بيته، ما زال عالة على والديه، بعد أن فقد كل أحلامه أمام الوضع البائس نتيجة استمرار الانقسام مستدركاً القول: تصالحوا يرحمكم الله.. فتح تُصمم على شروطها وكذلك حماس، وبين التصميمين أصبحت المصالحة الفلسطينية في خبر كان.

ويضيف أن حماس أوحت من خلال خطابات كبار مسؤوليها أن القصة قصة كرامة وعلى الرئيس أبو مازن أن ينهي إجراءاته المفروضة على غزة أولاً، وبعد ذلك حماس ستمكن حكومة الوفاق وستكون جاهزة لتسليم غزة لحكومة رامي الحمد الله.

المسن جمعة اللوح (66 عاماً) يقول لـ«البيان»: العناد كفر، إذا خلصت النوايا فكل شيء يصبح سهل التحقيق، ولكن نوايا حماس غير طيبة فإذا كانت خطوة البدء الأولى تمس بكرامة حماس فلتكن الخطوات بالتوازي من الطرفين وفي نفس الوقت وبحضور الشعب على شاشات التلفاز، وهكذا تنتهي «المصيبة اللي إحنا فيها».

الانقسام تجذّر

من يشاهد الواقع بعيون ثاقبة في هذا الوقت يتضح له أن الانقسام تجذّر وقد يتحول إلى انفصال، والخاسر الوحيد هو الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، بعد أن أصبحت المكاسب الحزبية الضيقة أهم من كل شيء.

الناشط والكاتب السياسي وسيم عبد الجواد يقول «إن حماس تتحمل المسؤولية عما يجري من تعطيل وتأخير في ملف المصالحة وأن جميع الجولات المكوكية التي جرت لم تحقق أي جديد، كما أن السلطة الفلسطينية لا تزال تشترط تسلمها غزة بشكل كامل قبل أية حلحلة لكل الأزمات الموجودة فيها. وبين الموقف والآخر، تتزايد معدلات البطالة والفقر والبؤس والعوز الذي بات ينهش نحو مليوني فلسطيني منذ أكثر من اثني عشر عاماً، ومع كل تعطل وفشل في هذا الملف يعود التوتر الإعلامي ويتسيد المشهد وتعود من جديد الاتهامات المتبادلة بين الطرفين».

وأكد أن المطلوب مصالحة في إطار إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير، فهي الحاضنة والقادرة على تصحيح الطريق والمسار الوطني في ظل هذا الفراغ الذي سببه الانقسام، متمنياً أن تتم دعوة الجميع من جديد إلى المجلس الوطني في أقرب وقت وأن تشارك جميع القوى السياسية لمواجهة صفقة القرن التي تهدف للإطاحة بالمشروع الوطني».

في الصورة المقابلة أوضح الكاتب عبد الجواد زيادة: «بأن المضحك المبكي هو أن جميع القوى السياسية الفلسطينية بما فيها فتح وحماس يعرفون جيداً أن عدم إتمام المصالحة سبب انتكاسة كبيرة وتراجعاً أكبر في القضية الوطنية على المستوى الدولي والإقليمي وأن الانقسام أثر بشكل جلي على النسيج المجتمعي والوضع الاقتصادي، متسائلاً: لمصلحة من الاستمرار في هذا الانقسام البغيض؟ وأكد بأنه بعد عقد ونيف من الانقسام نمت على السطح مجموعات متنفذة ترى في إنهاء الانقسام وإعادة اللحمة خطراً كبيراً على مصالحها، وأن هذه الفئة القليلة من هؤلاء هم من يضعون العراقيل أمام جهود الوسطاء.

الخاسر الحقيقي

ونوه زيادة بأن المتضرر والخاسر الحقيقي من الاستمرار في هذه الحالة من التشرذم والشقاق هو المواطن الفلسطيني وقضيته الوطنية، ففي غزة أثر الانقسام والحصار على الأوضاع الاقتصادية وبات القطاع الذي عانى من الحروب والفقر يعاني المزيد من جراح يصعب علاجها وأن الشعب أصبح كمن يرقص على حافة المجاعة الحقيقية بعد أن انعدمت كل السبل أمام الناس في مستقبل مشرق في ظل تصاعد حدة التصريحات بين قيادتي حماس وفتح مؤخراً والتلويح من قبل السلطة الوطنية بمزيد من الإجراءات التي من المؤكد أنها ستسهم بمزيد من الأزمات وزيادة الفجوة، في وقت يمعن الاحتلال بتغوله واستيطانه في الضفة الغربية والقدس.

كل هذا وما زالت حماس تنظر بارتياب وترى الذهاب باتجاه المصالحة سيقوض من سلطتها الحزبية في غزة ولن تمنحها سلطة في الضفة والقدس، ولهذا فهي تتمسك في الحفاظ على قدمها في غزة ولو على حساب الكل الوطني.

ولا يرى زيادة حلولاً قريبة في الأفق لأن بعض الأطراف الخارجية في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مثل قطر تعمل على دعم الانقسام الفلسطيني تحقيقاً لمصالح إسرائيل ولهذا قامت بإدخال الوقود والأموال لحركة حماس.

غياب الفصائل

أستاذ علم الاجتماع أحمد التري يقول: إنه في ظل هذه الحالة المقيتة باتت المفاضلة لدى الناس في غزة بين الموت في حرب وعدوان جديد على غزة أو الموت قهراً نتيجة استمرار هذه الحالة من الانقسام، وكأن من يفرضون هذه الخيارات يحاولون إيصال الشعب إلى أن الأحزاب السياسية إن تدخلت في أرزاق الناس حولت حياتهم إلى موت سريري، وكذلك كأنهم يدفعون الناس إلى القبول والتسليم بـ «صفقة القرن» وبما قد يأتي من تصفية للقضية الفلسطينية.

وأضاف: «على الرغم من كل المحاولات السابقة من قبل الشباب للخروج بتظاهرات للضغط على طرفي الانقسام، تقوم حماس في القطاع بمنع أي تحرك شعبي يمكن أن ينقلب ضدها، لدرجة أنها مؤخراً منعت الاحتفال بذكرى انطلاقة حركة فتح».

وأكد التري أن بعض التحركات الشبابية الجماهيرية في الشارع في بداية الأمر، حققت نوعاً من الضغط على «حماس»، ولكن سرعان ما جرى تجييرها إلى قضايا هامشية، ووسط هذا المشهد المظلم، تغيب الفصائل والأحزاب المؤثرة من غير طرفي الانقسام، وخصوصاً الجهاد الإسلامي، و”الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وكأن ما يدور على الساحة لا يعنيها، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الحاضنة الشعبية للفصائل أصبحت تتآكل ومعها أصبح الشارع ينتظر الخلاص من أي طرف ينهي الأزمات المتراكمة التي باتت كالسيف المسلط على رقاب الفلسطينيين.

قطر تصب الزيت على النار

رأى أستاذ العلوم السياسية في غزة، عاطف أبو مطر، أن إدخال قطر أموالها ووقودها لحركة حماس في غزة، من دون الرجوع إلى الجهات الرسمية، يعتبر تجاوزا خطراً وتدخلاً من قطر من أجل تمويل الانقسام.

وحذّر أبو مطر من الدور الذي تؤديه قطر في تحويل قضية الفلسطينيين من قضية وطنية إلى إنسانية، يتم من خلالها تبديل الحقوق بمساعدات إنسانية. وقال إنه على الرغم من التحذيرات التي أطلقتها السلطة و«فتح»، فإن قطر صمّت آذانها ولم تُصْغِ إلى هذه المطالبات، وتجاوزت كل الحواجز، ونسّقت مع إسرائيل وحماس، وأدخلت الأموال والوقود، ليس حباً في «حماس»، ولكن من أجل إبقاء الانقسام.

الفصائل بين المشاركة والفرجة على الانقسام

ثمّة فصيلان فلسطينيان يوجدان على خريطة الانقسام الفلسطيني، فيما يوجد الباقون خارجها ويتفاعلون معها بالبيانات وإطلاق الدعوات لتحقيق المصالحة، علماً أن النسخ الأولى من الحوارات شارك فيها الجميع، قبل أن تقتصر طاولة الحوارات على طرفي الانقسام، «فتح»، و«حماس» اللذين يتبادلان الاتهامات، بينما تستمر مصر في محاولاتها رأب الصدع بصبر وجلد ومن دون يأس.

نائب أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح فايز أبو عيطة قال لـ«البيان»: «إن ما يجري من استهداف للقضية الفلسطينية وتمرير صفقة القرن وما يجري من تصعيد إسرائيلي بين الحين والآخر يجب أن يدفع الجميع إلى الإسراع في إتمام المصالحة، معتبراً أن ما نشاهده من مسلسل تتكرر حلقاته بشكل مستمر أصبح لا يطاق وممل، معتبراً أن فقدان الأمل لدى المواطن مصيبة كبرى ولكنه في المقابل ما زال يعيش من أجل تحقيق هذا الأمل.

حوار جديد

وأوضح أبو عيطة أن الحوارات السابقة أثبتت إخفاقها، وأن «فتح» ليست بحاجة لحوارات جديدة مع «حماس» التي أفشلت جميع الحوارات السابقة، وإنما بحاجة لوضع آليات وطرق جديدة لتنفيذ الاتفاقات السابقة. وطالب أبو عيطة مصر بفضح من يعطل تحقيق المصالحة.

ضياء جبر مفوض الإعلام لحركة فتح في شمال غزة اعتبر المصالحة من أكبر التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني لطي هذه الصفحة السوداء من تاريخه الذي عمدته تضحيات لا يقدرها أولئك الذين يفشلونها من المنتفعين والذين تحكمت بهم عقليات مغلقة وثقافة نأت بنفسها عن الأهداف الوطنية والشراكة في مواجهة المشروع الصهيوني العنصري المجرم، وأن التحجّر وراء المصالح الحزبية الضيقة لدى «حماس» وتمسكها بحكم قطاع غزة بغض النظر عن النتائج الكارثية التي تنعكس على القضية والشعب الذي يعاني من مرارة الفقر والعوز وانسداد الأفق وهذا السلوك الذي مارسته في تعطيل تمكين حكومة التوافق من القيام بمهامها، أجج الموقف وضرب آمال شعبنا المتعلق بالمصالحة للخروج من هذا النفق المظلم، وأن الواجب الوطني يقتضي أن تستجيب «حماس» لمتطلبات الوحدة الوطنية وإتمام المصالحة، على قاعدة الشراكة الوطنية والاصطفاف جميعاً في خندق مواجهة الاحتلال لانتزاع حقوقنا المشروعة وتحرير وطننا المغتصب.

غزة رهينة

من جهة أخرى قال القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بكر الجمل لـ«البيان» إن غزة يجب أن لا تبقى رهينة للفرقاء في فتح وحماس الذين سيقودون إلى الانفصال بعد تعطيلهم لاتفاقات المصالحة، معتبراً أنه لا بديل عن الحوار الوطني الشامل وليس الثنائي بين الطرفين كضمانة وطنية لتطبيق الاتفاقيات. وقال الجمل: «إن الشعب الفلسطيني لن يقبل أن تكون جولات الحوار رهينة فتح وحماس بل يجب أن تمر عبر تنفيذ الاتفاقات والحوارات السابقة في القاهرة».

وأكد الجمل أن التهدئة التي وفرتها قطر بين «حماس» والاحتلال خطأ كبير يتجاهل طبيعة وحساسية اللحظة السياسية، فهي تمنح الاحتلال المزيد من الوقت لنهب الأرض وتزييف الواقع من خلال تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية، متسائلاً: لمصلحة من يجري تفريغ منظمة التحرير من محتواها النضالي؟؟، داعياً في الوقت ذاته لمراجعة سياسية كامله تستخلص فيها الفصائل الفلسطينية الدروس مما جرى للوقوف يداً واحدة في وجه صفقة ترامب.

تدهور وارتباك

وأكد القيادي في حزب الشعب الفلسطيني عايش عبيد أن الأوضاع في الساحة الفلسطينية تأخذ في التدهور والارتباك، وأنه ليس من المصلحة تدهور الأمور إلى مزيد من التوتر، بعد أن وصل الانقسام إلى كل بيت وحارة، وهذا يتطلب وقفة جادة من قبل الجميع لإنهاء الانقسام والتجاوب مع الوساطة المصرية للمصالحة بدل التراشق الإعلامي.

Email