ريبورتاج

مسيرات العودة.. شعب لايزال يحلم بالوطن

إصرار على مواصلة مسيرات العودة كل جمعة | أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يتساءل سائل: إلى متى؟ ويتساءل آخر: متى هو؟ ثمانية شهور مرّت على انطلاق مسيرات العودة الكبرى التي بدأت منذ الثلاثين من مارس هذا العام.

المشهد هناك أدق من أن يوصف، فللوهلة الأولى تشعر كأنما الغبار المنبعث من إطار عجلات «الكاوشوك» هو أشبه بالغيم الذي يحجب الرؤية عن عيون الناظرين هناك، ليجعلها أوضح من شمس النهار في عين كل من راهنوا على إجهاض هذا الحراك الشعبي.

في ساحة المسيرات، هناك يوجد الشباب والشيب والأطفال والصبية والنساء. الطرق المعبدة برائحة الدم، وجوه بلغت من العمر عتياً، وأخرى لم تزل في ريعان الشباب، مسعفة تضمد جراح مصاب، ومسعف آخر يضمد جراح مصاب آخر. متطوعون من الشبان والشابات حملوا على أكتافهم عبء مرحلة صعبة، والجماهير هي الوقود الأول والأخير لمنبت هذا الحرك السلمي.

هناك على حدود التماس الخمسة الفاصلة ما بين قطاع غزة وإسرائيل، يتوافد المئات من الغزّيين كل جمعة، والعزائم في قلوبهم راسخة كما الجبال لم يرهبهم لا إرهاب محتل، ولا عنجهية آلة حرب استخدمتها إسرائيل ضد مدنيين عزل لم يكن ذنبهم سوى أنهم شاركوا في مسيرات هتفوا من خلالها: «عائدون»، و«لا نقبل حلاً بديلاً لا بالتوطين ولا بتراب الأرض ذهباً».

مكبّرات وهمسات

مكبّرات الصوت، وهمسات من الحاضرين، بائع آثر المخاطرة بنفسه على أن يجلب قوت أولاده وهو بيع المشروبات الساخنة والباردة هناك، وأخرى اتخذت من هذا الحدث سبيلا ًلها كي تطعم الموجودين هناك طليعة كل صباح جمعة، هناك الجلسات العائلية والخيمة التي نصبها صاحبها اعتزازاً ببلدته الأصلية، وجموع من الفرق الفنية صدحت بالأغاني الشعبية الفلسطينية، علاوة على مظاهر الدبكة الفلسطينية. هناك مقلاع مقابل آليات إسرائيلية لم تفرق ما بين طفل وعجوز، ففي ساحات المسيرات يدرك الحاضر أن ثمة حقاً لا بد من استرداده مهما طال الزمان فلن يسقط بالتقادم.

امرأة عجوز تنقش على ذقنها نقش حنة يخيّل للناظر إليه أنه جزء أصيل من ملامح وجهها، ويمكن القول إنها أحد المواظبين على المشاركة في مسيرات العودة في منطقة ملكة شرقي قطاع غزة، وحين تسأل عن سبب مجيئها تختصر حديثها قائلة: «بدنا نرجع على ديارنا يما». هذه الجملة كفيلة بأن تختصر معاني لم تقوَ العجوز على قولها بعد، فجسدها الهامد ينبض ثورة، وهي ترنو للرجوع إلى بلاد هُجّرت منها قسراً إثر نكبة عام 1948.

عاصروا النكبة

هذه العجوز وغيرها من النساء والرجال الطاعنين في السن من عاصروا حيثيات النكبة آنذاك يعد وجودهم في تلك المسيرات شاهداً حياً وبارزاً على أحقية هذا الشعب في أرضه، فوجودهم سلمي بحت، ولا يحملون في قلوبهم إلا عبء المرحلة وكاهل السنين، لكنهم بوجودهم أعادوا الاعتبار لقضية اللاجئين في أذهان الأجيال اللاحقة، وفي نفوسهم التي لم يؤثر فيها طول الحلم وانتظاره على شغفهم بتحقيقه، فكل المعادلات الرامية بأن الكبار يموتون والصغار ينسون قد دحضها وجود الشاب والعجوز جنباً إلى جنب، في صورة حيوية تصدّت فيها غزة بقضها وقضيضها لأي قرار جائر بحق اللاجئين وقضيتهم.

الفكرة بدأت بخاطرة لمعت في ذهن مجموعة من الشباب، وبهذا تعد فكرة شبابية منبثقة من الوعي الشبابي الفلسطيني بتشكيل حراك سلمي يقام على السياج ما بين غزة ومناطق الـ48، يتخلله عدد من الفقرات الفنية التراثية، وأساليب من التعبير عن حق العودة بأدوات سلمية خالصة ضمن حراك حمل اسم «مسيرات العودة».

دمج المطالب

ولكن القصة لم تقف عند هذا، بل بدأت تأخذ منعطفات أخرى، أهمها إرفاق المطالبة بكسر الحصار إلى جانب المطالبة بحق العودة، ليغدو اسمها «مسيرات العودة وكسر الحصار».

هناك أصوات تعالت مؤيدة لدمج المطلبين معاً على اختلاف طبيعتيهما، وهناك من اعترض مستنداً إلى ضرورة بقاء هذه المسيرات على طبيعتها وسلميتها بمطلب واحد، وهو «حق العودة»، من دون مطالب سياسية حزبية أخرى تتعلق بحصار إسرائيل لقطاع غزة على مدى اثني عشر عاماً، وهذا لا يعني البتة عدم تأكيد أهمية رفع الحصار الجائر عن غزة، ولكن لكل حيثياته الخاصة التي تعبر عن مضمونه، لا سيما أن هذه المسيرات وبطابعها السلمي أعادت مشهد انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى للأذهان، ليس ذلك فحسب ما يعبر عن سلمية النضال الفلسطيني إزاء المحتل، بل لو عدنا للوراء حيث صفحات التاريخ التي تشهد على إضراب الأشهر الستة أو ما يعرف بإضراب 1936، وغيرها من مظاهر الاحتجاجات السلمية التي فرضت معادلات جديدة لمصلحة الفلسطينيين، فجماهير مسيرات العودة تدرك جيداً أن حالة التسييس المتعمد للمسيرات تضعف من سلميتها، وتضعف من تعاطف الرأي العام العالمي مع اللاجئين وقضيتهم، بينما النضال الشعبي السلمي غير المسيس في هذه المسيرات يشكّل استراتيجية قد لا تأتي بنتائج مباشرة، إلا أنها تفضح الإسرائيليين وتعريهم من كل مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتغنون بها زوراً.

غزة والضفة

الشاب عبد الغني حمزة (28 عاماً) يرى في مسيرات العودة أسلوباً جديداً، ليس من شأنه التركيز على قضية اللاجئين فحسب، معبّراً عن ذلك بقوله: «نحن كفلسطينيين ندرك حجم المعاناة التي يمرّ بها أبناء القطاع والضفة الغربية على حد سواء، ففي غزة لاجئون، وفي الضفة أيضاً، وفي غزة يناضل الشعب بهذه المسيرات السلمية مطالباً بأحقيته في العودة، وفي الضفة هناك استيطان يلتهم معظم الأراضي، وفي الخان الأحمر أبطال تصدوا للمحتل بموقف مشرف من الشعب وقيادته، إضافة إلى حالة الخناق التي تفرضها إسرائيل على الحواجز، وبذلك فإننا بهبتنا هذه نطالب بحق الفلسطينيين جميعاً على اختلاف أماكن وجودهم، حقهم في العودة والاستقلال وتقرير المصير».

ويضيف عبد الغني: «هذه الهبّة الشعبية جعلت من المشهد الفلسطيني مشهداً متصدراً على وسائل الإعلام، سواء من حالة الإبداع التي تبناها الشباب هنا على الحدود من ابتكارهم وسائل احتجاج سلمية، وتنفيذهم فقرات الدبكة الشعبية وغيرها، إضافة إلى فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي باختراقه سلمية هذه المسيرات، فمسيرة سلمية تربك توازنه السياسي والعسكري، ما يشي بضعف حجة هذا المحتل وبطلان وجوده على هذه الأرض».

كسر الحصار

الكاتب والمفكر الفلسطيني الدكتور خضر محجز يرى أن مسيرات العودة لم تهدف يوماً إلى تحقيق العودة، وأن الهدف الممثل بكسر الحصار هو ما يسعى إليه السياسيون من هذه المسيرات، موضحاً ذلك بقوله: «كنت من البداية أعتقد أن مسيرات العودة ستسيس لما ترغب فيه حماس من تحقيق أهدافها ومصالحها، فمسيرات العودة التي تغيّر اسمها من مسيرة العودة الكبرى إلى مسيرات فك الحصار وتقديم الدعم لحكم حماس في غزة، لا يمكنها أن تحقق عودة، وإن صدقت مشاعر الجماهير التي ربما لا تدري ما يرغب فيه السياسيون وما يصبون إلى تحقيقه».

ويضيف محجز: «هؤلاء الجرحى الذين ذهبوا مطالبين بحق العودة من سيضمد جراحهم؟ من سيساعدهم على تكاليف العمليات والأدوية التي تلزمهم للتعافي؟ المئات من شباب قطاع غزة بُترت أطرافهم، الوضع في غزة يحتاج إلى شراكة فلسطينية حقيقية تعبّر عن حس وطني خالص ينقذ الغزيين فيه من مغبة الانقسام الفلسطيني، حتى يصبحوا قادرين على مواجهة العدو».

صناعة تحويلية

يرى مراقبون فلسطينيون أن هذه المسيرات جرت لها صناعة تحويلية، جعلت منها مسيرات لانفصال غزة ووأد المصالحة، ففي الوقت الذي يتم فيه الحديث عن الورقة المصرية التي تتضمن المصالحة والتهدئة مع الاحتلال، تفضل «حماس» الحديث في ملف التهدئة على ملف المصالحة، ما يوحي بعبثية المشهد وتراكم أبجدياته، وفي ظل هذا كله بات من الضروري وضع النقاط على الحروف، ومعرفة ما إذا كانت هذه المسيرات للعودة أم لفك الحصار.

ويبقى المشهد الأكثر إيلاماً صور الشهداء والجرحى، وأنات المعذبين من أمهات الشهداء وذويهم، فكل التحليلات على اختلافها لم تشكّل فارقاً أساسياً مثلما شكلته صرخات المودعين من الأهل والأصدقاء عند توديعهم للشهداء، فغروب يوم الجمعة من كل أسبوع شكل لدى الشهداء غروباً أبدياً عن ناظر ذويهم.

وفقاً لآخر الإحصائيات، فإن أكثر من 282 شهيداً قضوا في مسيرات العودة منذ بدايتها في الثلاثين من يناير، أما عدد الجرحى فقد بلغ 22 ألف جريح منهم 1080 إصابة خطرة تحتاج إلى رعاية طبية لأكثر من ثلاث شهور، و4780 إصابة متوسطة، و95 حالة بتر، إضافة إلى 18 حالة شلل، وتسع حالات فقدان للبصر.

حراك غزة بين خطة العودة وتكتيك رفع الحصار

بالنظر إلى طبيعة الحراك الشعبي قرب السياج الفاصل في غزة، بغض النظر عن مراميه وتسييسه وتأرجحه بين استراتيجية العودة وتكتيكية رفع الحصار، فإن الحديث عن حق العودة كمطلب شرعي للفلسطينيين في هذه المسيرات قد عزّز من الوعي الشبابي والمجتمعي إزاء هذه القضية، لا سيما في انشغال العالم العربي بقضاياه وأزماته الداخلية.

وبالتزامن مع المسيرات على الحدود براً، هناك ما يعرف بالمسير البحري الذي يقام في أقصى الشمال الغربي لغزة على شاطئ البحر بالقرب من موقع «زيكيم» العسكري يوم الاثنين من كل أسبوع، في خطوة تلت خطوة مسيرات العودة على الحدود البرية بنحو خمسة أشهر، من خلال قوارب بحرية صغيرة الحجم وإطارات مطاطية يتم إشعالها، لتوضع على ألواح من الخشب، وتلقى في المياه باتجاه الحدود الفاصلة، وسط تعرض الشبان الفلسطينيين لهجوم قوات الاحتلال، سواء بالرصاص الحي أو قنابل الغاز.

من وجهة نظر البعض أثبتت هذه المسيرات نجاحها، ومن وجهة نظر البعض الآخر فإنها لم تحقق أهدافاً سوى أعداد الشهداء والجرحى.

أسلوب نضالي

أمين سر حركة فتح في إقليم شمال غزة حاتم أبو الحصين تحدث لـ«البيان» قائلاً: «لا نرى في مسيرات العودة كأسلوب نضالي سلمي أي خطأ، لكن نحن غير معنيين بمزيد من الشهداء، ولا نريد أن نعطي للمحتل ذريعة لقتل أبنائنا، ومما لا شك فيه أن هذه المسيرات وحّدت البوصلة لدى الجماهير الشعبية في مقاومة سلمية لعدو واحد، ما يعني أننا بحاجة إلى توحيد صف السياسيين أيضاً، وتلاشي كل الخلافات التي تعوق الوصول إلى مصالحة حقيقية، فالجماهير التي قالت كلمتها في الميدان بأن لا لصفقة القرن ولأي مشروع تصفوي، بالتأكيد هي تأمل بتحقيق الوحدة الوطنية ولمّ الشمل الفلسطيني بعد أحد عشر عاماً من الانقسام».

يمضي أبو الحصين: «هذا الزخم الجماهيري أسهم في وقائع جديدة على الأرض، تمثل بالحراك الدولي والإقليمي تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته، وكشف الوجه القبيح لإسرائيل أمام العالم أجمع، وتثبيت المفاهيم والقيم الوطنية في نفوس الفلسطينيين في الداخل والخارج».

ويؤكد أبو الحصين ضرورة توحيد مصطلح مسيرات العودة تحت اسم «مسيرات العودة»، فاتضاح ووحدوية الرؤية يعنيان نتائج واضحة وموحّدة، فهذا الشعب الذي يضحّي من أجل وطنه يستحق الكثير من قيادته، ومطلب الوحدة الوطنية مهم لدى الشعب مثل مطلب العودة، مشيراً إلى أن إحقاق الوحدة الوطنية لا يتم إلا عبر قيادة فلسطينية موحدة وقرار وطني واحد، ممثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمكين السلطة الفلسطينية الشرعية من أداء مهامها في غزة، وطي صفحة الانقسام، وإنقاذ القطاع مما يحاك ضده من صفقات مشبوهة.

حديث التهدئة

الأسئلة متعثرة، والإجابات أكثر تعثراً، فمن ذا بوسعه إدراك أو تقييم ما هو قادم وفقاً لمعطيات شحيحة، فجلسات التهدئة التي تتم برعاية مصرية تهدف في المقام الأول إلى التوصل إلى تهدئة وتخفيف معاناة أهل غزة، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحاً: ما هو الهدف من مسيرات العودة؟

الكاتب والمحلل السياسي أحمد وادي يقول محاولاً الإجابة عن هذا السؤال: «الرجوع إلى أراضينا المحتلة ما زال يتطلب الكثير منا، فكيف يمكن لشعب منقسم أن يحقق ما هو أسمى من ذلك وأصعب، لكن يكفي ما أوعزته هذه المسيرات من حس وطني إزاء حق اللاجئين في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها عام 1948».

ويضيف وادي قائلاً: «جميعنا يأمل بالعودة، وجميعنا يأمل أيضاً برفع الحصار عن غزة، لكن على حماس أن تدرك أن هناك أولويات لا بد من تنفيذها، فخيار المقاومة السلمية هو خيار مهم ومطروح، ولا يقل أهمية عنه خيار الوحدة الفلسطينية، فباعتقادي تحقيق الوحدة الفلسطينية قد يكون أمراً أكثر سهولة -فيما لو رغبت حماس في تمكين السلطة الفلسطينيةـ من التفاوض مع إسرائيل عبر وسيط مصري من أجل تحقيق التهدئة».

Email