قرية مصالحة يمارس سكانها «غاندية» عفوية غير مسبوقة «3-4»

إمبيو.. حيث يتعايش الجلاد والضحية في رواندا

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في منطقة مايانجه بمقاطعة بوغسيرا، التي تبعد نحو أربعين كيلومتراً جنوب العاصمة كيغالي، تقع قرية «إمبيو» المستحدثة التي تمثل نموذجاً فريداً للتعايش السلمي بل ولتصالح النفس البشرية مع ذاتها.

أدركت منظمات المجتمع المدني والحكومة الرواندية التي استلمت الحكم بعد انتهاء الإبادة الجماعية في 1994 أن سياسة العين بالعين قد تترك الجميع عميانا، وأن مستوى المشاركة الواسع في المجازر لا يترك أي خيار أمام الروانديين سوى دفن أحقاد الماضي والتطلع نحو المستقبل، بعدما توصلوا إلى حقيقة بسيطة مفادها: إما الاستمرار في دوامة الانتقام أو التعالي على الجراح، وإما مواصلة القتل على الهوية أو الاعتراف بالذنب بكل إخلاص وندم.

تعتبر تجربة «قرى المصالحة» جديرة بالدراسة بحق للتمعن في الكيفية التي أمكن من خلالها للسكان أن يمارسوا «غاندية» عفوية غير مسبوقة في التاريخ لبلدٍ طفق يقتل شعبه بعضه البعض، فلم يوفر الزميل في العمل أو الدراسة زميله ولا الجار جاره ولا الصديق صديقه.

وإن كانت التلال التي تميز طبيعة رواندا ساهمت في عزلة سكانها عن بعضهم البعض، فإن قرى السلام التي أنشأتها الحكومة لم تقارب فيما بينهم فحسب، بل صالحتهم كذلك.

ففي 2003، صدر عفو رئاسي لإطلاق سراح المتورطين في الإبادة الجماعية شرط أن يعتذروا ويعربوا بصدق عن ندمهم ويخبروا ضحاياهم بما اقترفوه ويطلبوا الصفح. وإن كان طلب العفو مفهوم، فإن المثل العربي «العفو عند المقدرة» تجلى واضحاً في قبول الناجين وأقارب الضحايا ذلك بعدما لمسوا صدق التوبة وهدأت قلوبهم حينما علموا أين دفن أحبتهم.

اعتذر تخرج من السجن!. معادلة بسيطة. بإمكان أي أفاق أن يدعي الندم ويعتذر بكلمة لا تقدم ولا تؤخر. لكن يجب أن يكون الاعتذار صادقاً والندم نابعاً من القلب. من يضمن؟.. لا أحد. وحده الله يعلم ما في النفوس. ويعلم الله وحده أيضاً فيما إذا كانت هذه التجربة ستنفع في الشرق الأوسط المبتلى بحالات الاقتتال الداخلي عويصة الحل.

«موزنغو» هنا!

توقفت السيارة في طريق فرعي ترابي. سرعان ما ركض ثلاثة أطفال صغار ووقفوا متفرجين من دون أن ينطقوا بكلمة. مازحهم مرافقي بسؤالهم عمن أكون، فأجابوا: «موزنغو». الكلمة تعني «الجوال التائه» وأطلقت قبل أكثر من قرنين على المستكشفين البيض الأوائل الذين قدموا إلى منطقة البحيرات العظمى ولطالما تاهوا في مجاهل إفريقيا.

ومن ثم، باتت مرادفاً لكل شخص أبيض غريب. أنستني تلك الدعابة المهمة الكئيبة أمامي، ودفعتني إلى التفكير فيما إذا كنت فعلاً أقتفي آثار أولئك المستكشفين وما الذي يمكن أن تخفيه «إمبيو» من أسرار وكنوز.

للقرية باب صغير تدخل منه فتجد رجالاً ونساء يجلسون على مصاطب خشبية بلا مسند يتحدثون فيما بينهم، في حين يلعب أطفال بأغصان أشجار متكسرة من دون اهتمام بما يجري حولهم وترعى بكسل إلى جانبهم بقرة بنية اللون.

كان الوقت منتصف النهار، لكن الأشجار التي تظلل الجلسة خففت حدة الشمس الاستوائية، وانعكس بريق أشعتها على الأسقف القصديرية للبيوت البسيطة المبنية من الطوب والآجر.

بعد أن أبلغ السكان طبيعة المهمة، طلبنا منهم تقريب المصاطب والجلوس بشكل مربع. تحتار في اختيار أول المتحدثين. ففيما كنت أمشّط ملامحهم تمحيصاً، لم أتمكن من التمييز بين الجلاد والضحية; فالكل تبدو عليه الوداعة والطيبة.

تفاصيل القرية

بادر أحدهم بالحديث مسهّلاً المهمة. تبين أنه عمدة القرية التي أنشئت في 2006 ويدعى باراهيرا أنستاز وهو ناج من المجازر يبلغ من العمر 42 عاماً انتخبه سكانها بالتوازي مع الانتخابات الوطنية.

شرح باراهيرا بعض المعلومات عن القرية قائلاً: «هناك 53 منزلاً على مساحة ثلاثة هكتارات يسكنها 371 شخصاً مقسمين على 26 عائلة من التوتسي الناجين و27 عائلة من الهوتو تضررت بالمجازر 17 منهم من مرتكبي الإبادة الجماعية معتقلين سابقين». ويضيف: «يعيش سكان القرية على الزراعة.

بعضهم يمتلك الأراضي وآخرون يعملون فيها. أما النساء، فيبعن السلال المحاكة يدوياً لكسب الرزق في سوقٍ يقام كل يوم اثنين، كما شكل الجميع جمعية تعاونية في حال احتاج أحدهم مالاً، ويلتقون مرة كل شهر لمناقشة شؤون القرية وأمور المصالحة».

قتلوا والدي

على يمين باراهيرا جلس شخص تغلب عليه ملامح التفاؤل والنشاط المفرط. شعرت بأنه يريد أن يقفز ويفرغ ما في جعبته من كلام. استعلمت عن اسمه، فأجاب: «أوسينغوموريمي سيلاس وكان عمري 12 عاما إبان الإبادة الجماعية وأنا الآن أب لثلاثة أطفال». سرد حكايته بثباتٍ يظهر تجاوزه آثار المأساة.

وقال مستخدماً ذراعيه في شرح تفاصيل ما حدث: «في 8 أبريل 1994 هاجمت ميليشيا الإنترهاموي والجنود قريتنا وقتلوا شخصين. وفي 12 أبريل، هربنا أنا وأشقائي ووالدتي من المنزل وبقي والدي وهو من التوتسي.

وصلتنا معلومات أن البيت تعرض إلى هجوم، فعدنا لنرى والدي مقتولاً ومرمياً في المرحاض وممتلكاتنا سرقت بالكامل، فولينا الأدبار على الفور. حذر بعض الهوتو المتعاطفين معنا والدتي، وهي أيضاً من الهوتو، من أن الميليشيات تسعى إلى تصفيتنا.

حمتنا هوية أمي التي تضم خانة العرقية، لأننا كنا مسجلين في بطاقتها الشخصية، كما ساعدنا جار من الهوتو صديق لوالدي يدعى ستيفان أونري قال لعناصر حواجز ميليشيات الإنترهاموي بأنني ابنه. قصر قامتي الذي يدل على أنني من الهوتو ساهم في تصديقهم روايته».

وأضاف: «بقينا في منطقة جيكونغورو في الإقليم الجنوبي حتى نهاية الحرب. أردت أن أعرف كيف ومن قتل والدي وأين دفن. حتى جاء العفو في 2003 وأماط المتورطون اللثام عن وجوههم».

ليست قصة سيلاس دعوة مفتوحة إلى الشك بمن حولنا. لكن أن تكتشف الضحية أنها كانت تعيش إلى جانب جلادها وتطعمه من طعامها، فلا بد أن ذلك مدعاة إلى التوجس من الإنسان حينما يطلق العنان لغرائزه.

«جارنا داماسين باهيمبايابو قتل والدي بالشراكة مع جار آخر يدعى ماتياس. دلني على قبره وروى كيف قتله بعصى على رأسه، مقراً بذنبه بعدما اعتقل. أما الآخر، فظل طليقاً ومات قبل أن يتوب، فيما فضل شخص ثالث متورط يدعى فياني السجن على الاعتذار».

قصص القتل خلال الحروب الأهلية والمجازر أكثر من أن تُعد في العالم، لكن أن تجلس إلى جانب قاتل والدك وتعانقه وتحافظ على علاقة الجوار به، بل وتروي كيف ساعدت زوجته في ترتيب حفل زفافك، فذلك بالضبط ما يدفعك إلى أن ترفع حواجبك مندهشاً وتنظر إلى محدثك وملايين إشارات الاستفهام والتعجب تفصل بينك وبينه.

قال إنه عاد إلى مقاعد الدراسة في 2006 وأنه لا يخشى تكرار ما حصل لأن الروانديين استوعبوا الدرس. يختتم سيلاس بكلمة تلخص طوباوية تجربته: «أزور قبر والدي رفقة باهيمبايابو الذي يصر على طلب الصفح منه بعد موته».

القس والبقرات

إلى جانب سيلاس، جلس ماتياس سينديجيا وهو أب لأربعة أطفال.. وقاتل لأربعة مثلهم أيضاً!. ماتياس، وهو ليس إياه المذكور سابقاً، كان جار سيلاس وشارك في قتل سكان الحي وعلم بأن باهيمبايابو قتل والده. تفاصيل متشابكة تشي بتشعب العلاقات في بلدٍ ريفي صغير مثل رواندا.

رحلة ماتياس مع الدم تبدأ بحديثه عن السبب في اختياره هذا الطريق: «لقد ضللتنا الحكومة حينها وغسلت دماغنا. زودتنا بأسلحة قالت إنها لصيد التوتسي أعداء الوطن. كان عمري 44 عاماً». ويضيف: «قبل المجازر، أعطاني قس أنغليكاني من التوتسي يدعى ستيفان غاهيغي بقرة».

والبقرة في رواندا رمز الكرم والغنى وعربون إخاء. رد ماتياس على تحية جاره في قرية روغاراما بالشكل الذي لا يتوقعه أحد.. قتل ستة من عائلته!. «دعتنا الحكومة إلى إبادة التوتسي ونهب أملاكهم. لم أفكر في البقرة التي منحني إياها، بل طمعت بالبقرات التي يمتلكها.

قتلت أربعة أولاد ووالدته وزوجة شقيقه حينما اقتحمت منزله رفقة أفراد الميليشيا التي أنتمي إليها. أرديتهم بضربة واحدة على رقابهم بالمنجل من الخلف. لا أتذكر كم شخصاً كنا نقتل في اليوم. فالتحركات تمت خبط عشواء ومن دون تخطيط».

وفي النهاية، هرب المسؤولون في يوليو وتركوا ماتياس وعصبته لوحدهم حينما سيطر المتمردون على البلاد، فاعتقل لتسعة أعوام. وفي 2003، زاره القس في السجن وطلب منه الإقرار بذنبه، لكنه خشي الانتقام، قبل أن يقبل شروط العفو الرئاسي ويعترف بما اقترفت يداه.

وما الذي أيقظ شعور الندم في داخله؟، يقول إن «سياسة المصالحة وتسامح القس وشعوره بضرورة تجاوز الماضي، شجعه على اتخاذ الخطوة». سألته إن كان لا زال يذكر وجوه الذين قتلهم، فأجاب بهدوء مركزاً نظره في نقطة محددة وكأنه يسترجع شريط تلك اللحظات: «نعم، بعض الوجوه».

مرحاض الكنيسة

تفحصت وجوه الجالسين باحثاً عن روايةٍ أخرى، فأشار العديد منهم نحو امرأة طلبوا منها التكلم وبدت مترددة في التحدث، لكن سرعان ما انطلق لسانها بفصاحة.

كان عمر جانيت موكابياغاجو 16 عاماً إبان المجازر. توقعت أن تسرد كيف تعرضت للاغتصاب، قبل أن تفاجئني بتفاصيل مأساة من نوعٍ آخر تحكي كيف يمكن لك أن تموت من دون أن يمسك سوء. تقول جانيت: «في 8 أبريل، هاجمت الميليشيات حيّنا فقتل والدي وخمسة من أقاربي من ضمنهم شقيقي الأكبر الذي عذب لثلاثة أيام وصُفّي بأبشع الطرق عبر شطره إلى نصفين ورميه في الشارع».

وتضيف: «طرقت باب منزل قسيس يدعى موساغو، رفض إيوائي بشدة وطلب مني أن أموت بعيداً عنه لأن ميليشيا الإنترهاموي ستقتله إن اكتشفوا حمايته لي. وفي 15 أبريل، التجأت إلى كنيسة في منطقة كبغاي 40 كيلومتراً جنوب غربي كيغالي مع الآلاف. كان الجنود وأفراد الميليشيات يأتون كل يوم وينتقون أشخاصاً لقتلهم.

أما أنا، فاختبأت في مرحاض الكنيسة مع امرأة أخرى، وعشنا فيه حتى 2 يونيو حينما وصل المتمردون. كنا ننام بالتناوب وقوفاً لفترات متقطعة وقصيرة جداً وظهرنا مسند إلى الباب، لكي لا يشعر القتلة بأن هناك أحدا في المرحاض».

رسمت ابتسامة استغراب على وجهي. وكأن هذا التدبير سيحيل بينها وبين الموت إن أحس القتلة بوجودها، لكنه التمسك بأهداب الحياة الذي يجبر الإنسان على التصرف بسذاجة أحياناً.

وتكمل جانيت فيما تتغير قسمات وجهها لتعلوها مسحة من الكآبة: «في الليل كنا نخرج للبحث عن الطعام في مزارع الموز والقمح. في البداية، أمدنا القساوسة بالأكل.

ومن ثم، قتل هؤلاء، فانقطعت الإمدادات. أما في النهار، فكان كل أملي أن أعيش حتى بعد الظهر. كنت متأكدة أنني سألاقي حتفي وأن المسألة مسألة وقت. لقد أنقذتني الأقدار بكل معنى الكلمة من أن أحداً لم يبحث في المراحيض». لم تنته فاجعة جانيت هنا.

فقد تزوجت جندياً من الجبهة الوطنية الرواندية، أي قوات المتمردين السابقين، ما لبث أن قتل في 1998 في حرب الكونغو تاركاً إياها وحيدة مع أربعة أطفال هم ثلاثة صبية وبنت. النقطة المضيئة الوحيدة في سيرتها أن شملها بما تبقى من أفراد عائلتها التأم مجدداً حينما التقت أخويها في يوليو وديسمبر ومن بعدهما شقيقتها.

تختتم جانيت بالقول: «مع انتهاء المجازر، وددت لو أن بإمكاني الانتقام من كل الهوتو. وفي 2003، علمت بهوية قتلة عائلتي عبر اعتذارٍ في الإذاعة طلبوا فيه المغفرة. انطفأت النيران في أحشائي حينما جاء هؤلاء يسألون العفو بكل صدق. واليوم، أشعر بتفاؤل مما يحملها المستقبل على الرغم من كل شيء، فلن يفيدني العيش مع ذكريات الماضي».

قبل أن أغادر «إمبيو»، سألت سكانها فيما إذا أرادوا إبلاغي بشيءٍ ما ، فحملوني رسالةً إلى العالم بأن أبلغه قصصهم وعِبَرِها. أن أحدث الجميع عن أولئك الناجين ومرتكبي الإبادة الجماعية الذين يعيشون مع بعضهم البعض بسلام. طلبوا من الآخرين أن تكون روايات الموت مقبرةً يدفن فيها الكره المجاني.. وهذا حسبهم ليس إلا.

 

خسارة الزوج

 

قتل زوج لورينسيا موكاريميرا، والتي تعيش في قرية المصالحة، ونجت هي وأولادها الخمسة بعدما اختبأوا. كان عمرها إبان المجازر 35 عاماً. قالت إنها علمت هوية قاتل زوجها حينما اعترف في 2003 وتبين أنه جارها في القرية ويدعى كاناموجيريه نيبوموسيه.

قالت أيضاً إنه «لكي يسامحنا الناس يجب علينا أن نسامحهم»، وأن التسامح أراحها من الشعور بالانتقام، خاصةً أن القاتل حدثها عن موضوع قتله زوجها بقلبٍ مكسور دفعه إلى زيارة قبره تكفيراً لذنبه. لم أكمل حديثي معها لأن تعابير وجهها سرعان ما اكفهرت حينما عادت بها الذاكرة إلى الوراء مسترجعة ما حصل قبل عقدين من الزمن مع زوجها

 

بضاعة فريستا تصل حتى الولايات المتحدة

قابلت مديرة المبيعات في إحدى الجمعيات التعاونية قرب قرية المصالحة وتدعى فريستا مارغجريمانا. فريستا مزارعة فقيرة قررت وقريناتها في المنطقة أن يغيرن حياتهن، فتدربن على عمل الأشغال اليدوية وبيعها منذ 2007.

تقول إنها لم تشترك في القتل خلال المجازر لكن سمعتها «تضررت» بسبب ما حصل كونها من الهوتو. وتشير إلى أن «ما وحد الجميع هو أن الكل واجه مشاكل بعد انتهاء الإبادة الجماعية وشعروا بأنهم متضررين بشكل أو بآخر».

قناعة بسيطة وعميقة في نفس الوقت من امرأة عادية تدل على أن لا رابح حقيقياً في الحرب، وأن المنتصر لن يجد أمامه سوى هزيمة مقنّعة في نهاية المطاف. وتضيف: «عائلات الناجين من التوتسي ومنفذي المجازر من الهوتو قرروا التوحد والتفكير بطريقة تترك الماضي وراءهم».

وتمضي قائلة: «لقد أصبحت مندمجة في المجتمع ومقبولة أكثر من الجميع في العديد من القرى منذ أن عملت في الجمعية. لقد در علي هذا العمل دخلاً مكنني من استجرار المياه والكهرباء إلى منزلي ودفع الفواتير ورسوم مدارس أولادي».

وتشرح والابتسامة تعلو على وجهها بفخر: «مؤخراً شاركت في دفع ثمن دراجة نارية اشتراها زوجي الذي يعمل في الزراعة، فبات أولادي ينظرون إلي على أنني عنصر منتج». بضاعتها التي قد لا تثير الانتباه تباع في الولايات المتحدة وكندا بكمياتٍ كبيرة عبر طلبياتٍ مجدولة من الشركات هناك.

أولاد فريستا هم ابنتان متزوجتان تبلغان من العمر 27 و22 وصبي لم يتجاوز 18 عاماً. تقول إنها تهتم جداً لأمرهم ولا تريدهم أن يمروا بنفس التجربة المريرة التي شهدتها. وتختتم حديثها بكلامٍ معبر: «لا يمكن أن يُبنى المجتمع على الانقسامات العرقية. التاريخ علمنا أن تلك الانقسامات يمكن أن تدمرنا. أعتقد أنه من المهم أن نركز على ما يمكن أن يغير حياتنا إلى الأفضل».

 

مارسيل موتسينداشياكا من عالم الموت إلى رحاب التجارة

مارسيل موتسينداشياكا شاب لم يتجاوز 25 عاماً، لكنه مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة «إوموسيكي» للإعلام وتقانة المعلومات التي أنشأها في 2011، وهو يدير أيضاً ثاني أكبر المواقع الإخبارية في رواندا.

عدا عن كونه صغيراً في السن، فإنه يحمل هو الآخر قصة مأساوية. يستهل حديثه بالعودة إلى الوراء في الزمن. ويقول: «قبل عقدين، كانت البلاد مقبرة جماعية مهجورة. خسرت جزءا كبيراً من عائلتي مثل والدي وأخواتي وأخوتي وأعمامي. لقد كانت رحلة نجاة طويلة.

كنا في البيت حينما بدأ القتل. ومن ثم انتقلنا الى الكنيسة طلباً للملجأ في منطقة غاسابو في كيغالي وبقينا فيها لأسبوع». ويستطرد: «وبعدها، أتى القتلة وأخذونا من دون أن يستطيع القس أن يفعل شيئاً».

ويردف: «خلال هذا الوقت، بقينا لأكثر من أسبوع من دون ماء ولا كهرباء. وجاء القتلة وبدأوا يأخذون الرجال وأبقوا على النساء والاطفال. وبعد بضعة ايام، أتوا وأخذونا وسرنا حوالي ثلاثة كيلومترات سيراً على الأقدام».

ويكمل مارسيل سيرته التي رواها له أقاربه فيما بعد: «وصلنا إلى بيت صغير وكان عددنا كبيراً وأجبرونا بالسواطير والمناجل على الدخول إليه، فقتل الكثير على أبوابه، وكذلك مات آخرون جوعاً وعطشاً، قبل أن يعودوا بعد بضعة أيام ويأخذوا ما كان بحوزة الموجودين من أموال وحلي، حيث قالوا لنا إننا لن نحتاج تلك الأموال لأننا سنموت».

ويستطرد: «أتى شخص من القتلة وسأل أختي: هل والدك اسمه أوغستين؟، فأجابته: نعم. فرد: أنتم أصدقاؤنا. وأخذني وأختي، لكن شقيقتي الأخرى رفضت وقالت له: أنا ميتة أصلاً لا أريد الذهاب».

ويقول مارسيل: «نقلنا الى بيته وقال لنا إن والده واخوته سيقتلونني وأختي، ولذلك بإمكاننا البقاء في النهار حينما يكونون في الخارج يقتلون التوتسي، ولكن حينما يعودون ليلاً علينا المغادرة». ويضيف: «في المساء كنا ننام في مزارع الموز.

بعد ذلك، حررت الجبهة الوطنية الرواندية البلاد وسلمني إلى عناصرها». هذه الطفولة البائسة كانت كفيلة بضياع مستقبله لكن العكس هو ما حصل لاحقاً. يقول مارسيل: «بدأت حياتي المهنية كعامل في مقهى انترنت.

وفي 2007، غادرت صاحبة مقهى الانترنت البلاد وطلبت مني إدارة العمل. وبعد ثمانية شهور، تمكنت من جمع رأس مال وأنهيت دراستي الجامعية تخصص تقانة المعلومات وفتحت شركة خاصة بي، والشركة تضم 25 موظفاً كلهم أكبر مني سناً، وأنا الآن بصدد دراسة الماجستير».

 ولعل اسم شركة مارسيل يلخص معنى حياته. «إوموسيكي» تعني باللغة الكينيارواندية الفجر.

Email