سلام الشجعان.. آليات جديدة لحل الصراعات المزمِنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يتحقق السلام إلا عندما يكون هناك شجعان، ولا يدوم الاستقرار إلا في ظل قيادة تاريخية تستطيع أن ترى ما بعد «اللحظات الراهنة» من تعقيدات وتشابكات، فالبصيرة السياسية والرؤية المستقبلية القائمة على الوقائع والحقائق وليس السرديات المتقادمة، هي التي تحقق ما تحلم به الشعوب، وهؤلاء القادة الشجعان لا يجود بهم الزمن كثيراً، ولكن عندما يظهرون يتزامن معهم كل ما هو خير واستقرار وسلام ممزوج بالرفاهية والنجاح والسعادة.

يمتاز قادة الإمارات بشجاعة استثنائية، ورؤية تسبق بعقود أعضاء وعناصر مسلسل «الرفض العابر للتاريخ»، وهؤلاء الرافضون لكل شيء ما زالوا أسرى لحسابات الماضي ورهانات الظلام، وهو ما يجعلهم غير قادرين على رؤية جسور المستقبل، لأنهم عاشوا خلف أسوار الكراهية ومصانع الإحباط التي لا تستطيع أن ترى المكاسب والمنافع التي يرسمها ويحقّقها صناع المستقبل ورواد السلام.

مبادئ جديدة

معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية الجديدة لا تقوم على الحسابات القديمة الراديكالية التي حكمت المنطقة منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، وهي حسابات ضيّقة لا تتفق مع روح الإنسانية أو حتى النصوص السماوية التي طالبت بالجنوح للسلم عندما يجنح له الآخرون. والحسابات القديمة تتجلى في رفض أي جديد أو تغير لقواعد اللعبة السياسية التي سادت العلاقة بين العرب وإسرائيل طوال السنوات الماضية، وهي قواعد كانت شديدة القسوة على العالم العربي وأمنه القومي ودوله الوطنية التي تعرضت لأخطار غير محسوبة، وهو ما نراه اليوم في أكثر من دولة عربية.

تتأسس المبادئ الجديدة التي تقوم عليها معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل، ثم إعلان تأييد السلام بين مملكة البحرين وإسرائيل، على بناء «قواعد جديدة» من الثقة والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وتزيد من مساحة الفرص، وتقلّل من منسوب التحدّيات والأخطار من خلال عدم البقاء أسرى طوال الوقت لخلافات الماضي، وطرح مقاربات سياسية واقتصادية جديدة يستفيد منها الجميع، بدلاً من ضياع ثروات المنطقة وراء «صناعة الموت» و«نشر الكراهية» والجري وراء أساطير أكد الواقع أنها بعيدة عن متناول اليد في ظل توازن القوى إقليمياً ودولياً.

ومن هذا المسار الاستراتيجي في فهم عمق الأزمات في المنطقة، يمكن قراءة خطوة الإمارات التي أثبت تاريخها في النجاح والكفاءة أنها تتسم «بالسمو السياسي» و«الكفاءة الاقتصادية» للعمل على معادلة جديدة تتفق مع روح المستقبل وتساعد على استخلاص الحقوق الفلسطينية وفق أسس لم تطرح من قبل.

رسالة سلام

الإمارات تؤمن بأن السلام هو طريق الرفاهية والاستقرار والسعادة لشعوب المنطقة، وتعتقد اعتقاداً راسخاً بأن النور أفضل من الظلمة، وأن الخير أبقى من الشر، وأن التعاون والتشارك أجدى للبشرية من الصراع والتعارك. فنشر الكراهية والاستعلاء الذي يقود للاستحلال لا يمكن أن يبني علاقات تجلب الاستقرار والأمن، وخلافات الماضي يجب أن تنتهي عند ذاك الزمن البعيد، بينما المستقبل ينبغي أن تحكمه مسارات وعلاقات ومصالح وفق قاعدة المكاسب للجميع، وتتمسك في ذات الوقت وبنفس القوة والعزيمة بكل معاني الوطنية والعروبة من دون تفريط بالحقوق الفلسطينية.

دولة الإمارات، بما حققته لشعبها والمنطقة، باتت أكثر من وطن، «رسالة سلام» للعالم، بداية من إنجازاتها المختلفة في مجال التقارب الإنساني وتحقيق الرخاء والتقدم والكفاءة والنجاح وصولاً إلى الإبداع في الدبلوماسية والعلاقات الدولية. معاهدة السلام مع إسرائيل تفتح آفاقاً جديدة في الشرق الأوسط بعد أن أصيبت عملية السلام بالشلل والجمود منذ آخر اتفاق لبلد عربي مع إسرائيل وهي معاهدة «وادي عربة» مع الأردن في 26 أكتوبر 1994. ويؤسس القرار الإماراتي «الاستراتيجي والشجاع» لبداية جديدة تقوم على «الدبلوماسية المرنة والمتوازنة» لحل الأزمات التي تراكمت في المنطقة، هذه الأزمات التي عطّلت استغلال طاقات شبابها سنوات طويلة، الأمر الذي سيخلق بيئة سياسية واقتصادية جديدة للعمل من أجل السلام، وهي فرصة توفّرها القيادة الإماراتية للفلسطينيين والإسرائيليين للتفاوض بنوايا حسنة وبإرادة سياسية جادة. ولهذا دشنت المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية «استراتيجية جديدة» عمادها الأمل والعمل الإيجابي والبحث عن المصالح ونبذ العنف والسعي معاً من أجل مستقبل أفضل للجميع.

خيارات أكثر

يتمحور الذكاء السياسي الذي قامت عليه معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية، في أن الإمارات نجحت في ما فشل فيه الآخرون، فالمعروف أنه كان هناك برنامج بجدول زمني متفق عليه بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتنفيذ قرارات الضم، وخلال 70 عاماً من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ثبتت حقيقة واحدة وهي أن إسرائيل لا تتراجع عن خطوة تقرّرها، وخاصة الخطوات الاستراتيجية مثل قرار ضم الأراضي، لأنها قبل أن تقرر تكون قد اتفقت مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول المؤثرة في العالم، وأي قرار مشترك بين واشنطن وتل أبيب منذ حرب 4 يونيو 1967 تم تنفيذه بغض النظر عن الاعتراض في الغرب أو الشرق أو حتى في الأمم المتحدة.

فعندما قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في الأول من يونيو 2017، لم تستطع الدول العربية والإفريقية والآسيوية والاتحادان الإفريقي والأوروبي وروسيا والصين منع القرار، وواصلت إسرائيل والإدارة الأمريكية الطريق حتى النهاية، نفس الأمر يتعلق بالمستوطنات وقضم الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية والضفة الغربية التي تسير بوتيرة لا تتأثر على الإطلاق بالاعتراض العربي أو غير العربي، وهذا الأمر أدى لقلة الخيارات أمام الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية التي هدّدت مراراً وتكراراً بحل نفسها ولكنها لم تفعل، في حين تتلاشى الأرض من تحت أقدام الشعب الفلسطيني، وكل يوم يمر من دون التوصل لاتفاق يخسر الفلسطينيون وليس إسرائيل، فما كان مطروحاً على الفلسطينيين في كامب ديفيد 1978، واتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 رفضته إسرائيل بعد 14 عاماً خلال مفاوضات أوسلو التي جاءت في 1993، وجزء كبير من الأراضي التي كانت متاحة في اتفاق أوسلو 1993 تم بناء عشرات المستوطنات عليه الآن، وما يؤكد صحة وصوابية معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية أنها أنقذت 35% من أراضي الضفة الغربية وأكثر من 150 ألف فلسطيني يعيشون في غور الأردن وشمالي البحر الميت كان سيتم طردهم حال تنفيذ الضم، وهو ما يعيد عملياً التأكيد على حدود 4 يونيو 1967، ولكن سياسة الاعتراض ثم القبول بنفس الشيء بعد سنوات أضاع على الشعب الفلسطيني الكثير من «الفرص».

وفي ظل حالة الانقسام المزمنة في الساحة الفلسطينية، بدأت إسرائيل وضع الخرائط لضم الأغوار المحاذية للأردن ومعها مستوطنات في الضفة، وهي أراضٍ تشكل ما يقرب من 35% من مساحة الضفة الغربية لإسرائيل، ولم يكن هناك اعتراض أمريكي يذكر على الأمر حتى جاءت معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية وأوقفت هذا السيناريو الخطير.

دبلوماسية الغياب

أثبتت تجارب تاريخ الصراعات في المنطقة، أنّ سياسة الانزواء والانكفاء لا تؤمن الحقوق للشعوب، وخلال كل مراحل التحرّر الوطني كان الوطنيون والأحرار يسعون ويعملون دائماً على طرح قضية بلادهم وشعوبهم على طاولة المفاوضات وليس الابتعاد والغياب، لأن هناك معادلة في تاريخ نضال الشعوب تقول إن من لا يحضر المفاوضات لا يأخذ شيئاً، وهذا بالضبط ما جسده الرفض الفلسطيني للكثير من فرص السلام من مرحلة ما قبل كامب ديفيد 1978 وحتى معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية 2020.

Email