تحليل

الدولة هي الحل

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتعرض مجتمعات العرب لقصفٍ عاتٍ من وسائل الإعلام وشبكات التواصل. الصور والتصورات والأفكار والمفاهيم تلفها الضبابية تحت وطأة ركام الدعاية السلبية المنهمر، ولا بد من الاحتفاظ بوضوح الصورة وبرودة العقل واستقامة التفكير لتحصين العقول والقلوب ضد التشويش.

الدعاية السلبية تعزف على أوتار لها رنين جذاب، فمن الذي يرفض الديمقراطية، أو لا يحب احترام حقوق الإنسان، ولا يعتز بدين الإسلام، أو لا يتمنى أن يرى الشعب الفلسطيني وقد استعاد حقوقه الوطنية المشروعة.

الدعاية السلبية لا تناقش أياً من هذه القضايا، هي فقط تكتفي بإثارة الشكوك والتشويش على مواقف الدول العربية وسياساتها، في حين تتجنب الدخول في أي مناقشة جدية معمقة، تبين فيها البدائل، والشروط اللازمة لتطبيقها، ووسائل تحقيقها، والتكلفة اللازمة لذلك، وكيف سيتم توفيرها، ومن سيقوم بدفعها.

ليس لدى أرباب الدعاية السلبية خطة لأي شيء؛ فكل ما لديهم هو هدف بعيد أشبه باليوتوبيا، فيه البشر متساوون وأحرار يعيشون في رفاهية، وفيه المستضعفين حصلوا على حقوقهم كاملة غير منقوصة، بلا حاجة لمفاوضات وتسويات ومساومات.

ليس في الدعاية السلبية خطة تأخذ البلاد والعباد من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، فكل ما لديهم هو مطالب فضفاضة يصعب الإمساك بها، أما كيفية تحقيقها فسؤال مؤجل لما بعد الانتهاء من تقويض الدولة.

العالم كما يجري تصويره في القصف الإعلامي السلبي هو عالم بسيط يتكون من لونين لا ثالث لهما هما الأبيض والأسود، والناس طبقاً لهذا التصور هم أخيار أو أشرار؛ وأي نقيصة تشوه مجتمعاتنا وبلادنا فهي نتيجة لأن الأشرار لهم اليد العليا، فيما الأخيار مستضعفون.

ولكي ينتصر الخير على الشر، فإن جهابذة الدعاية السلبية يقترحون حلولاً بسيطة، أو أنهم في الحقيقة يطرحون حلاً واحداً سحرياً لكل المشكلات: دعونا نبدأ بتقويض الدولة.

بعض أرباب الدعاية السلبية فوضويون معادون للدولة، أي دولة، فهذا مبدأهم، وهذه عقيدتهم. بالنسبة للفوضويين فإن الدولة هي شر مطلق، ولا إمكانية لإفساح المجال للخير على الأرض إلا بهدمها.

بعد تنحي الرئيس الأسبق مبارك عن حكم مصر، وانتفاء أي معنى لشعار إسقاط الرئيس، رفع الفوضويون في ميدان التحرير لافتات كتبوا عليها «يسقط الرئيس القادم» للتدليل على أن ثورتهم مستمرة ضد الرئيس، أي رئيس، وضد أي دولة.

أغلب أرباب الدعاية السلبية إيديولوجيون وحزبيون، وأهمهم الإخوان، وهؤلاء يريدون تقويض الدولة كمرحلة وخطوة أولى تسبق تأسيس سلطتهم على أنقاضها. يقف الإخوان وراء القسم الأكبر من قصف الدعاية السلبية الموجه ضد بلادنا، لكنهم يحرصون على إخفاء هويتهم لتجنب استفزاز الأغلبية من الناس الرافضين لهم.

الدعاية الإخوانية الساعية لتقويض الدولة يجري تقديمها كما لو كانت تقييماً موضوعياً ونقداً بناءً مصدره مواطنين أبرياء لا صلة لهم بالأيديولوجيا أو التحزب. هكذا جرى التحضير للخامس والعشرين من يناير في مصر، لتظهر بعد ذلك الوجوه الإخوانية المستترة، والتي لم تستطع مواصلة التخفي في مرحلة الانقضاض على الدولة.

أرباب الدعاية السلبية يجيدون تمويه دعايتهم في ثوب الرأي الموضوعي البريء، فيتسربون إلى العقول والقلوب، ولا بد من تدريب المواطنين على تمييز الإعلام من الدعاية، وفرز الغث من السمين فيما يقرؤونه على الحواسب والهواتف، وما يشاهدونه على القنوات.

القاعدة الأولى لتحصين المواطن ضد الدعاية السلبية هي طرح سؤال الدولة، وهل ستصبح أكثر قوة وأكثر تماسكاً وأكثر استقراراً لو تم الأخذ بما يرد في الدعاية السلبية من أفكار، أم أنها ستصبح مخترقة، يضربها عدم الاستقرار، وتشتعل فيها الصراعات على السلطة، وتزيد فيها احتمالات العنف والإرهاب، وتضعف قدرتها على اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات.

قد تعاني الدولة، أي دولة، من أوجه قصور؛ لكن إصلاح الدولة وليس هدمها هو الطريق لمعالجة أوجه القصور، لأنه لا تنمية اقتصادية، ولا تحسن في مستويات المعيشة، ولا توزيع عادل للثروة، ولا حرية شخصية أو سياسية، ولا احترام لحقوق الإنسان إلا في إطار الدولة، فخارج الدولة لا يوجد إلا الفوضى. هذه هي القاعدة الثانية.

الدولة هي الفارق بين الحضارة والبربرية، هذا هو ما برهنت عليه الخبرة المريرة لأشقاء عرب تعرضت الدولة في بلادهم للاقتلاع، فلم يجنوا سوى ضياع الأنفس والأعراض والأموال، وهي النتيجة التي لم يحدثهم عنها أرباب الدعاية السلبية عندما دعوا الناس للانقضاض على الدولة وتقويضها. أرباب الدعاية السلبية يتهربون من طرح سؤال اليوم التالي: ما الذي سيحدث صبيحة الخروج على الدولة؟

إنه السؤال الذي تجنب طرحه أرباب الدعاية السلبية في سوريا وليبيا واليمن، ولو كان تم طرح سؤال اليوم التالي في هذه البلاد لربما كانت أوطاناً عربية عزيزة تجنبت الوقوع في المأزق الراهن. طرح سؤال اليوم التالي هو القاعدة الثالثة لفرز الطيب من الخبيث فيما تقصفنا به وسائل الإعلام والتواصل كل يوم. ليس كل ما يلمع ذهباً؛ هذه قاعدة رابعة.

فالمتلاعبون بالعقول من أرباب الدعاية السلبية يحاولون اختطاف القضايا والمبادئ النبيلة لحقوق الإنسان والديمقراطية والوطنية، لتتحول على أيديهم إلى أسلحة دمار شامل مصوبة نحو تقويض الدولة الوطنية؛ فيما التحليل العقلاني وخبرة شعوب المنطقة من حولنا تبين أنه لا إمكانية لوجود وحفظ الديمقراطية وحقوق الإنسان والوطنية إلا في إطار الدولة؛ وأنه إذا كان هناك نقص في أي من هذه القيم النبيلة فهو ناتج عن نقص في الدولة وتأخر في عملية بنائها؛ يتم استكماله بإتمام بناء الدولة، أي بالمزيد من الدولة، وليس بتقويض ما هو لدينا منها، وهذه هي القاعدة الخامسة.

Email