إعصار جماهيري أقام صرح الوحدة.. وزوبعة انفصالية هدمتها

مصر وسوريا.. نصف قرن على الجمهورية العربية المتحدة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يصادف اليوم الجمعة 22 فبراير مرور نصف قرن على قيام الوحدة بين مصر وسوريا تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة. هذا الحدث التاريخي الذي لم تعشه أجيال الحاضر التي لا ترى بصيص أمل في إشراقة فجر تتوحد فيه صفوف العرب، تحقق بفعل إعصار جماهيري سوري وإرادة شعبية فرضت على الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.

يومها، بزغ أمل جديد على أفق المنطقة العربية. دولة جديدة انبعثت في قلبها، تأسست بإرادة شعبية غير مسبوقة. قال عنها ناصر وهو يعلن قيامها: «ليست دخيلة ولا غاصبة، ليست عادية ولا مستعدية، تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوي ولا تضعف، توحد ولا تفرق، تسالم ولا تفرط، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفر الرخاء لها، لمن حولها، للبشر جميعاً، بقدر ما تتحمل وتطيق».

ولدت الوحدة من هدير تيار الإعصار الجماهيري الذي زلزل الأرض من تحت أقدام المتآمرين على الأمة وخصوم العرب في ذلك الوقت. تمخض الإعصار عن وحدة بين بلدين عربيين لا تجمعهما حدود مشتركة وإنما جمعهما تاريخ ومصير مشترك. ثم ما لبث أن أتت زوبعة انفصالية بعد ثلاث سنوات ونصف السنة لتهدم صرح الوحدة، وكأن الراحل الكبير ناصر تنبأ يوم إقامة هذا الصرح بزواله. إذ قال يوم إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة: «من واجبي أن أصارحكم، أن الطريق الذي نقبل عليه طويل وشاق. رحلتنا عليه ليست نزهة نروح بها عن النفس؛ وإنما رحلتنا عليه مشاق ومتاعب وكفاح وجهاد. ولسوف يضاعف من مصاعب ما سوف نلقاه أمامنا على الطريق.

إن الذين لا تروقهم وحدة سوريا ومصر ولا توافق أغراضهم، لن يتقبلوها بالرضا والسكوت، وإنما ستكون المساعي وستكون المحاولات وستكون المناورات؛ لهذا أقول من الآن إننا في سعينا على طريق أملنا يجب أن نظل مفتوحي الأعين، متنبهي الحس والوجدان».

ولكن كيف قامت الوحدة.. وكيف كانت نهايتها؟ أو بالتحديد من المسؤول عن إتمامها ومن يتحمل مسؤولية هدمها؟ وقائع التاريخ تؤكد ـ على لسان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل من سلسلة مقالاته في نهاية 1961 ـ أن الجماهير السورية وحدها هي المسؤولة عن قيام الوحدة.

كانت في مطلع سنة 1958، تردد بصوت واحد كالرعد، هتافها التاريخي، الذي يحمل كل المشاعر الفوارة التي فجرها ظهور شخصية البطل: «عبد الناصر يا جبار... يا محطم الاستعمار». وبدأت أصداء هذا الهدير الشعبي الجماهيري، تصل إلى كل مكان داخل سوريا، إلى دور الأحزاب المتصارعة إلى ثكنات الجيش الخائفة المتربصة، إلى الجالسين منهمكين في ـ طق الحنك ـ في نادي الشرق، وفي مقاهي دمر، وإلى المتحدثين بالسياسة في علب الليل في بيروت.

ويضيف هيكل: أخذ الجيش السوري زمام المبادرة، وكان ذلك هو الطبيعي، فإن ضباط الجيش بكتله المتصارعة كانوا في ذلك الوقت هم القوة الحقيقية وراء الواجهة المدنية، الهزيلة الضعيفة، في سوريا تلك الأيام.

وفى ذلك الوقت، اجتمع قادة الكتل المتصارعة في الجيش، في شبه هدنة مؤقتة بينهم، ثم تناقشوا في أوضاع سوريا، ثم استقر قرارهم: «على أن لا حل ولا أمل في سوريا، إلا بوحدة مع مصر». تستجيب أولاً لنداء الجماهير.

ثم تنتهي ثانياً لعبة الحبل المشدود على حافتي الهاوية الذي كانت تسير عليه سوريا بحكم الحالة التي تردَّت إليها أمورها. وكانوا في ذلك الوقت 22 ضابطاً يمثلون 22 كتلة في الجيش السوري. ووافقوا جميعاً على ذلك الحل برغم ما كان في خواطر كل منهم.

ويمضي هيكل قائلا: اتفقت كلمتهم جميعاً ـ 22 ضابطاً يمثلون 22 كتلة في الجيش السوري ـ على أن الوحدة هي الحل وهي المخرج. وركبوا جميعاً طائرة جاءوا بها إلى القاهرة، إلا واحداً منهم ـ هو عبد الحميد السراج ـ تركوه وراءهم في دمشق ليمسك بزمام الأمور في غيبتهم ويحفظ الميزان الدقيق المشدود على سلك بين حافتي الهاوية ـ ريثما يعودون إليه.

وصلوا إلى القاهرة يوم 14 يناير 1958 على وجه التحديد. وطلبوا أن يقابلوا الرئيس جمال عبد الناصر، ولكنه يومها لم يكن في القاهرة، بل كان في الأقصر مع ضيفه في ذلك الوقت الرئيس الاندونيسي أحمد سوكارنو.

وفي يوم 14 يناير، قابلهم المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة، والقائد العام للقيادة المشتركة التي كانت تضم الجيشين المصري والسوري في ذلك الوقت. وكان يعرفهم جميعاً، وكانوا يعرفونه جميعاً.

وتكلموا معه بما جاءوا من أجله. وليلتها اتصل المشير عبد الحكيم عامر بالرئيس جمال عبد الناصر في الأقصر، وكان رأي جمال عبد الناصر: أنه على أي حال سوف يعود في الغد إلى القاهرة وسوف يجتمع بهم ليسمع ما عندهم.

وباتوا ليلتهم في قصر الطاهرة في القاهرة، ثم خرجت بهم قافلة سيارات حملتهم إلى بيت عبد الناصر في منشية البكري. ثم كان اجتماع، يقول عنه هيكل أنه سيظل من أهم صفحات التاريخ العربي المعاصر. تحدثوا جميعاً فيما جاءوا من أجله... وساقوا له المبررات. وصفوا حالة الفرقة بينهم، وصفوا حالة الاستنفار ـ الطوارئ ـ الدائمة في الثكنات لأن كلا منهم يتوجس من الآخر.

وصفوا حالة سوريا الضائعة بين أحزابها، وبين ضغط حلف بغداد عليها في الداخل والخارج وبين تسلل الشيوعيين إلى الأعصاب الحساسة للوطن السوري. تحدثوا عن أسلحة حلف بغداد التي يجري تهريبها عبر الحدود وعن مخططاته للسيطرة على سوريا.

وقال عبد الناصر: هذا كله لا يبرر قيام وحدة، تلك كلها أسباب سلبية، سوف تكون عبئاً على الوحدة أكثر ما تكون قوة دافعة لها. وردوا «لكن الشعب في سوريا كله يطلب الوحدة... إن الوحدة مطلبه الدائم... والوحدة مع مصر بالذات هي التيار الكاسح في سوريا كلها الآن. والناس في سوريا يحسون أنهم يقبلون وأن مصر تصدهم!

ومجلس النواب السوري اتخذ قراراً بالوحدة مع مصر، ولكن مجلس الأمة المصري لم يستجب ولا يجيب على الإشارة الموجهة إليه من نظيره السوري... وإن هذا وضع يجرح الشعور الشعبي في سوريا».

وقال عبد الناصر: «إن الوحدة ليست بالعمل السهل... لقد بدأنا الآن ـ بالكاد ـ بعد معارك عنيفة مع الاستعمار نوجه كل طاقتنا لبناء مصر، وأملي في بناء مصر هو أن تكون قاعدة قوية، من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لنضال باقي الشعوب العربية».

وقالوا له: «تريد أن تعمل ذلك لمصر.. وتترك سوريا التي علقت آمالها على مصر وعليك.. أنت بذلك تتخلى عن دعوة القومية العربية كلها من أجل مصر وحدها». ورد على الفور: «إنني أريد أن أتكلم معكم بوضوح... وأنا أعرفكم جميعاً وأعرف حسن مقاصدكم ولكني أريد أن أسألكم سؤالاً واحداً: ـ ما هي صفتكم في الحديث معي عن هذا الأمر، وأنتم غير مسؤولين؟».

واستطرد ـ هل يعرف شكري القوتلي (الرئيس السوري) أنكم هنا تتحدثون معي في ذلك كله؟ قال أحدهم: شكري القوتلي سوف نبعث له برأي الجيش، وليس أمامه إلا أن يقبل، إنه لا يقدر أن يعارض على الإطلاق أي شيء نطلبه»!.

وقال جمال عبد الناصر: «متأسف... لا أستطيع أن أقبل هذه الأوضاع! أنا أعرف أنكم تمسكون في أيديكم بزمام القوة الحقيقية في سوريا. ولكني من ناحيتي لا أقبل في مثل هذه الأمور أن أتحدث وأن أبحث إلا مع حكومة مسؤولة».

وقال أحدهم: هل تعطينا وقتاً نتصل بالحكومة... سوف نبعث ـ إذا وافقت ـ برسول منا بالطائرة غداً إلى الحكومة يعرض عليها الموقف ويستطلع رأيها، وسنبقى نحن هنا حتى يعود الرسول برأي الحكومة الرسمي... ولا نريد أن نمشي من هنا إلا ونحن نعرف إلى أين قرارك بالتحديد».

وفي اليوم التالي، في الفجر، قامت طائرة تحمل أحدهم إلى دمشق، وفي العصر عادت الطائرة إلى القاهرة، فيها راكب الفجر، ورفيق آخر معه هو صلاح البيطار وزير الخارجية السوري في ذلك الوقت ممثلاً رسمياً للحكومة.

ليلتها 16 يناير 1958 ـ والكلام لهيكل ـ كان عبد اللطيف البغدادي رئيس مجلس الأمة (المصري)، يحتفل بذكرى إصدار دستور 16 يناير، وكانت مأدبة عشاء في مبنى مجلس الأمة.وعند منتصف الليل، في الدقيقة الأولى من يوم 17 يناير 1958، كانوا جميعاً في بيت عبد الناصر الذي جلس أمامهم وبجواره المشير عبد الحكيم عامر.

وقال صلاح البيطار إن الحكومة السورية موافقة على إتمام الوحدة بين مصر وسوريا. بل إن الحكومة ترحب بذلك، كمطلب شعبي، وكطريق لاستقرار سوريا. وقفز الباقون جميعاً وراء كلمات صلاح البيطار، يطلبون الوحدة، ويلحون في طلبها.

شروط ناصر

وقال عبد الناصر: إنني مستعد لقبول المبدأ ولكن على أساس ثلاثة شروط:

أولاً ـ أن يتم استفتاء شعبي على الوحدة، ليقول الشعب في سوريا وليقول الشعب في مصر رأيه الحر في التجربة ويعبر عن إرادته.

ثانياً ـ أن يتوقف النشاط الحزبي في سوريا توقفاً كاملاً، وأن تقوم الأحزاب السورية بحل نفسها.

ثالثاً ـ أن يتوقف تدخل الجيش في السياسة تدخلاً تاماً، وأن ينصرف ضباطه إلى أعمالهم العسكرية، ليصبح الجيش أداة دفاع وقتال، وليس أداة سلطة في الداخل وسيطرة.

وسكتوا جميعاً...

واستطرد عبد الناصر: «إنني أعلم أنكم جميعاً سوف توافقون على شرط الاستفتاء الشعبي. ولكن باقي الشروط لها أهميتها في تقديري. إن صلاح البيطار هنا، وصلاح البيطار ممثل لحزب البعث وهو من أكبر الأحزاب السورية، فهل حزب البعث على استعداد لأن يحل نفسه ويوقف نشاطه الحزبي؟

ثم، من ناحية أخرى، أنتم هنا جميعاً 22 ضابطاً تمثلون كتلاً مختلفة في الجيش أقرب إلى الأحزاب السياسية منها إلى الوحدات العسكرية فهل تقبلون الابتعاد عن السياسة؟ إن هذا الذي أقوله لكم فعلته في مصر... حتى مع الذين خرجوا معي ليلة 23 يوليو ليقوموا بالثورة.

لقد قلت لهم جميعاً يومها، إنهم باشتراكهم في الثورة قاموا بعمل سياسي، وهو عمل سياسي وطني في تقديري، ولكنهم بعده لم يعودوا صالحين لنظم الجيش وتقاليده ولضرورة تسلسل القيادة فيه لتبقى له كفايته المقاتلة.

إن الذين كانوا معي في اللجنة التأسيسية لحركة الضباط الأحرار خرجوا معي من الجيش وأصبحوا وزراء سياسيين. والذين شاركوا في عملية الثورة طلبت منهم ـ اعتماداً على وطنيتهم ـ أن يبتعدوا عن الجيش وأن يبدأوا وجوداً جديداً في الحياة المدنية. فهل أنتم على استعداد لذلك؟»

وقال صلاح البيطار إنه لابد أن نعود في هذا الشأن إلى قيادة حزب البعث. وقال الضباط الاثنان والعشرون: «نحن نفعل ما تأمرنا به.. إن أردتنا في الجيش بقينا، وإن أردت أحداً منا في أي منصب مدني سياسي فلسوف يطيع الأمر».

ويقول هيكل أنه كان واضحاً أن الشرطين الأخيرين لجمال عبد الناصر لمسا الأوتار الحساسة في الحياة السياسية السورية بالطريقة التي كانت تجري عليها، ولم يكن الاستفتاء الشعبي موضوع سؤال فقد كان التيار الشعبي واضحاً كاسحاً.

وكانت الحقيقة الكبرى في الطائرة معهم وهم عائدون: إن التيار الشعبي وأوضاع سوريا الخارجية والداخلية، وما بينهم هم أنفسهم، تجعل الوحدة أمراً محتماً مهما كانت شروط الرئيس جمال عبد الناصر.

وجاء كل الساسة من سوريا وفي طليعتهم شكري القوتلي. وبين الظروف الواقعة، وبين شروط جمال عبد الناصر، لم يكن هناك مخرج ثالث سهل. وكان الإلحاح الشعبي السوري يكاد يقتحم كل غرفة من غرف الاجتماعات.

إعلان الوحدة

وانتهت المحادثات إلى إعلان الوحدة رسمياً، والتوقيع عليها في يوم السبت الأول من فبراير سنة 1958، والمبادئ التي تقوم عليها هي:

1 ـ الدولة العربية المتحدة جمهورية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة، وشعبها جزء من الأمة العربية.

2 ـ الحريات مكفولة في حدود القانون.

3 ـ الانتخاب العام حق المواطنين على النحو المبين بالقانون، ومساهمتهم في الحياة العامة واجب وطني عليهم.

4 ـ يتولى السلطة التشريعية مجلس يسمى مجلس الأمة، يحدد أعضاؤه ويتم اختيارهم بقرار من رئيس الجمهورية، ويشترط أن يكون نصف الأعضاء على الأقل من بين أعضاء مجلس النواب السوري ومجلس الأمة المصري.

5 ـ يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية.

6 ـ الملكية الخاصة مصونة، وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون.

7 ـ إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاؤها لا يكون إلا بقانون، ولا يعفى أحد من أدائها في غير الأحوال المبينة في القانون.

8 ـ القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون.

9 ـ كل ما قررته التشريعات المعمول بها في سوريا وفى مصر تبقى سارية المفعول في النطاق الإقليمي المقرر لها عند إصدارها، ويجوز إلغاء هذه التشريعات أو تعديلها.

10 ـ تتكون الجمهورية العربية المتحدة من إقليمين هما سوريا ومصر.

11 ـ يشكل في كل إقليم مجلس تنفيذي يرأسه رئيس يعين بقرار من رئيس الجمهورية، ويعاونه وزراء يعينهم رئيس الجمهورية بناء على اقتراح رئيس المجلس التنفيذي.

12 ـ تحدد اختصاصات المجلس التنفيذي بقرار من رئيس الجمهورية.

13 ـ تبقى أحكام المعاهدات والاتفاقات الدولية المبرمة بين كل من سوريا ومصر وبين الدول الأخرى، وتظل هذه المعاهدات والاتفاقيات سارية المفعول في النطاق الإقليمي المقرر لها عند إبرامها، ووفقاً لقواعد القانون الدولي.

14 ـ تبقى المصالح العامة والنظم الإدارية القائمة معمولاً بها في كل من سوريا ومصر، إلى أن يعاد تنظيمها وتوحيدها بقرارات من رئيس الجمهورية.

15 ـ يكون المواطنون اتحاداً قومياً للعمل على تحقيق الأهداف القومية، ولحث الجهود لبناء الأمة بناء سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتبين طريقه ويكون هذا الاتحاد بقرار من رئيس الجمهورية.

16 ـ تتخذ الإجراءات لوضع الدستور الدائم للجمهورية العربية المتحدة.

17 ـ يجرى الاستفتاء على الوحدة وعلى رئيس الجمهورية العربية المتحدة في يوم الجمعة 21 فبراير سنة 1958.

هذه المبادئ أعلنها عبد الناصر للجماهير في خطابه في الخامس من فبراير 1958، أشاد خلاله بشعب سوريا، ووصفه أنه طليعة القومية العربية، وأنه رأس الحرية في اندفاعها، وأنه الحارس الأمين لتراثها المجيد.

ويوم 22 فبراير أذيعت نتائج الاستفتاء على الوحدة ودستورها المؤقت الذي يشير إلى المبادئ السابقة، وحظيت الوحدة بإجماع شبه مطلق داخل مجلس النواب السوري، باستثناء خالد بكداش عن الحزب الشيوعي السوري.

فشل التجربة

لم تدم الوحدة سوى ثلاث سنوات ونصف السنة. ولدت في الثاني والعشرين من فبراير 1958، وأسقطها في الثامن والعشرين عام 1961 انقلاب سوري، مهدت له عوامل عدة. ويقول الإعلامي السوري عبد الهادي البكار الذي تقلد مناصب إعلامية بارزة في مصر وسوريا خلال سنوات الوحدة ـ كشاهد على أحداث تلك الفترة.

ان لم يكن أحد صانعيها بحكم قربه واتصالاته بجمال عبد الناصر: إن سقوط دولة الوحدة لم يكن مفاجئاً ولم تكن دسائس الاستعمار هي العامل الوحيد لسقوطها بل أن تلك التجربة تآكلت من داخل نفسها بفعل أخطاء عدة ارتكبها صناعها وجعل سقوطها حتمياً.

وأضاف أن هذه الوحدة بقدر ما اجتازت طريقاً شاقاً ومؤامرات عدة بالغة الخطورة عند تحقيقها، فقد واجهت أيضا بعد قيامها استمرارية تلك المؤامرات واشتداد العمل العدائي ضدها من الداخل والخارج وبالتالي لم يقدر لها البقاء والثبات حيث تم الانقلاب على هذه الوحدة والقضاء عليها يوم 28 سبتمبر 1961 وقد اتسمت محاولات إسقاطها بعدد من الأساليب والوسائل أهمها:

1. استخدام العسكريين واستغلال مشكلات المؤسسة العسكرية وتوظيفها من قبل السياسيين الانفصاليين بغرض الوصول إلى الانفصال.

2. اشتداد التآمر الخارجي على الوحدة ووصوله حد تمويل الأنشطة المعادية للوحدة واختراق العديد من المستويات السياسية والعسكرية العليا واجتذابها للقيام بالانقلاب على الوحدة.

3. تكالب العناصر التي فقدت مصالحها في ظل الوحدة إلى جانب الأطراف السياسية التي كانت تبحث لها عن تطلعات لنفوذ سياسي في المستوى القطري وفقدت تلك التطلعات بعد أن كبر مستوى الوطن في ظل الوحدة وأحست بفقدان تطلعاتها الخاصة.

4. استغلال الصعوبات في ظل الوحدة وتحميل الوحدة مسؤولية تلك الصعوبات بهدف استخدامها كذريعة لنسف الوحدة والانقلاب عليها وتغطية ذلك بمشاريع وبدائل مخادعة مثل الفيدرالية وخلافه.

5. استخدام الشعارات والصيغ التي يقصد بها مخادعة واجتذاب عامة الناس بهدف التغطية على التوجهات والمآرب الانفصالية.

6. إخفاء النزعات الانفصالية والتنصل من كل عمل انفصالي وتحميل الآخرين أسباب ونتائج الانفصال.

وهناك إجماع بين معاصري الوحدة ومؤرخي فصولها على عدة أسباب أخرى رئيسية للانفصال وسقوط الوحدة، أهمها:

ـ التسرع في انجازها وعدم استكمال الإعداد الكافي لقيامها، إذ قامت تحت ضغط العاطفة والحماس الجماهيري.

ـ تباين وتيرة التطور بين البلدين، مما ترتب عليه نقائص اقتصادية استغلها خصوم الوحدة. وتردد أن الاقتصاد السوري تضرر من جراء سيطرة البرجوازية المصرية على المرافق والمؤسسات الاقتصادية.

ـ حل جميع الأحزاب في سوريا، مما أدى إلى تكالب بعض السياسيين عليها.

ـ سيطرة المصريين على المراكز المهمة بالحكومة واتهام الضباط المصريين بالاستعلاء على زملائهم السوريين.

تلقى الزعيم عبد الناصر طعنة انفصال سوريا عن مصر بألم كشف عنه في خطابه التاريخي في الخامس من أكتوبر 1961. وصف ما حدث بأنه محنة رهيبة تهدد الأمة العربية وتبعثر قواها. ورغم آلامه وحزنه على ما حدث.

إلا أنه بحكم انتمائه وحسه القومي كان حريصا على ألا يقطع صلته بالشعب السوري الذي رفعه إلى عنان السماء. وجه نداءه إلى الأمة العربية مؤكدا أن الوحدة الوطنية داخل الوطن السوري تحتل المكانة الأولى، وإن قوة سوريا قوة للأمة العربية.

وطالب ناصر، رئيس وفد الجمهورية العربية المتحدة الدائم لدى الأمم المتحدة بألا يقف في وجه طلب قبول سوريا عضواً في الأمم المتحدة. كما طلب إلى الخارجية المصرية ألا تقف حائلاً دون عضوية سوريا في الجامعة العربية، وطلب من الجامعة العربية أن تشكل لجنة تحقق في أن كل احتياطي الذهب وغطاء العملة السورية كما كان قبل الوحدة موجودا بكامله في البنك المركزي في دمشق.

وتتأكد أيضا من أن الخزينة السورية تلقت نقداً من الخزينة المصرية غداة إتمام الوحدة لمواجهة عجز الميزانية السورية في السنة السابقة للوحدة، وتتأكد كذلك من أن الإقليم المصري كان يقدم كل سنة ما قيمته 3 ملايين جنيه للإقليم السوري تمكيناً له من مواجهة أعباء البناء.

كذلك قدم الإقليم المصري خلال فترة الوحدة تحويلات نقدية قيمتها 9 ملايين جنيه إسترليني لكي يتمكن الإقليم السوري من مواجهة مطالب الاستيراد. كان عبد الناصر ـ من خلال هذا الموقف الداعم لسوريا ـ يرى أن للشعب السوري حقاً في حصيلة دخل قناة السويس باعتباره شريكاً في معركة تأميمها وانتزاعها من المستعمر.

ناصر رئيساً والقوتلي المواطن الأول

فور أن صار عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة بإرادة شعبية وسياسية، تم تكريم الرئيس السوري شكري القوتلي خلال حفل أقامه ناصر الذي منحه وسام المواطن الأول في الجمهورية الجديدة وعين رئيس الوزراء السوري صبري العسلي في منصب نائب رئيس الجمهورية.

أغنية عربية

قصيدة الشاعر الراحل كامل الشناوي «أغنية عربية» من أعذب وأصدق ما كتب عن الوحدة بين مصر وسوريا. لحنها وغناها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.

تقول كلماتها:

كان وهماً وأماني وحلماً

كان طيفا ! !

وصحا النائم يوما

ورأى النور فأغفى.. كلما استيقظ نام

وارتمى بين الظلام

ثم كانت صحوةً

كالنار ؛ كالتيار.. كالقدر العنيد !

أيقظته، بعثته، خلقته من جديد، من حديد

لا تسلني ما الذي وحدنا قلباً وصفاً ؟

سل جموع الشهداء

سل دموع الأبرياء

سل دم السوري والمصري

يجرى لهبا

صارخا: عرباً كنا وبقى عربا !

لم يكن أيهما بالأمس وحده

ولقد صارا مع الأيام وحده !

لا تسلني أين كنا ؟ أين أصبحنا ؟ وكيف ؟

لا تسلني ما الذي وحدنا قلباً وصفاً ؟

عرف الشعب طريقه.. وحد الشعب بلاده

فإذا الحلم حقيقة.. والأماني إرادة ! !

القوتلي لعبد الناصر: أخذت شعباً نصفه يعتقد بأنه زعيم

قال شكري القوتلي لعبد الناصر بعد أن وقع بإمضائه على اتفاق الوحدة: «أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس! أنت أخذت شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي. ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء. ويعتقد 25 في المئة منهم أنهم أنبياء.

وهناك عشرة في المئة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة. أخذت ناساً فيهم من يعبد الله، وفيهم من يعبد النار، وفيهم من يعبد الشيطان». ونظر عبد الناصر إلى شكري القوتلي وقال ضاحكاً: لماذا لم تقل لي ذلك قبل أن أوقع الاتفاق بإمضائي؟! (من مقال للأستاذ محمد حسنين هيكل في 20 أكتوبر 1961)

إعداد: حسن صابر

Email