أمين هويدي يتذكر 50 عاما من العواصف ـ الحلقة السادسة ـ ليلة نهاية المشير، السادات يذرف الدموع والشافعي يلتهم الفاكهة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 14 شوال 1423 هـ الموافق 18 ديسمبر 2002 امين هويدي واحد من شهود العيان على اهم الاحداث التي شهدتها مصر والمنطقة العربية في اخطر فتراتها التاريخية. شغل هويدي منصب رئيس جهاز المخابرات العامة ووزير الدفاع، ووزير الارشاد القومي وقبلها سفيراً لدى بغداد والرباط وأحد الضباط الصغار في حركة الضباط الاحرار، الحلقات التالية مقتطفات من كتاب يصدره قريباً مركز الاهرام للترجمة والنشر بعنوان «50 عاماً من العواصف.. ما رأيته قلته». اتصل الرئيس تليفونيا وبنفسه بالمشير يوم 24 اغسطس 1967 ودعاه للاجتماع به فى المنزل فى منشية البكرى الساعة السابعة مساء اليوم التالي ووافق المشير على الفور مرحبا. وكان سبب الموافقة المعرفة العميقة التى اكتسبها من تعامله مع عبد الناصر طوال تلك المدة، فهو يعلم أنه فى الأزمات السابقة فإن الرئيس كان يعمل دائما على إصلاح الأوضاع وسد الثغرات. إلا أن أنصار المشير حينما بلغهم نبأ اللقاء المنتظر انقسموا إلى قسمين : قسم يرى أن يذهب المشير للقاء على أساس أنه فاتحة خير قد تنهى الأزمة القائمة، وقسم آخر أوجس خيفة من اللقاء وعارضه بشدة. واستمر حوارهم مدة طويلة. ولم يكن الحوار الدائر خافيا على الرئيس إذ كان ينقل له كافة التفصيلات التى تحدث داخل منزل المشير أولاً بأول. وقد فضلنا عدم إلقاء الأوامر النهائية إلا فى آخر لحظة ممكنة أى بعد ظهر يوم 25 اغسطس 1967. وفى الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم تم الاتصال بالرئيس لأخذ موافقته النهائية على البدء فى التنفيذ فأمر بأن تدور العجلة. وقد اتصلت بالفريق محمد فوزى، وكان فى منزله يشعر بوعكة خفيفة، واتفقت معه على أن نتقابل الساعة السادسة فى مكتب السيد سامى شرف، وأن يحضر معه كلا من اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية والعميد سعد عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية، ثم اتفقت مع شعراوى جمعة وسامى شرف على أن نتقابل نحن الثلاثة فى مكتب الأخير الساعة الخامسة بعد الظهر لنواصل حساباتنا. وفى تمام الساعة الخامسة اجتمعنا حسب الاتفاق السابق لنضع اللمسات النهائية للخطة، واتفقنا على أن يقوم شعراوى جمعة وسامى شرف بالقبض على مرافقى المشير عند وصوله إلى منزل الرئيس وبعد دخوله لمقابلة الرئيس مباشرة، اتفقنا أيضا أن تكون عربتى وسائقها «الأسطى عثمان» فى الانتظار على باب منزل الرئيس الداخلى لنقل المشير فيها إلى منزله بعد الانتهاء من تصفية منزل الجيزة. وفى الساعة السادسة مساء تم عقد المؤتمر المتفق عليه فى مكتب «سامى»، وكان الحاضرون هم : أمين هويدى وزير الحربية، شعراوى جمعة وزير الداخلية، الفريق محمد فوزى القائد العام للقوات المسلحة، اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية، العميد سعد عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية، سامى شرف سكرتير الرئيس للمعلومات. وبدأت بصفتى وزيرا للحربية إعطاء التعليمات والأوامر لتنفيذ الجزء العسكرى الخاص بمحاصرة منزل المشير بالجيزة وتصفية المقاومة، وشددت على تجنب أى صدام أو تبادل لإطلاق النيران، كما أمرت باللجوء إلى الحيلة والصبر. واتفقنا على أن يكون القائد العام على اتصال مستمر معي طوال تنفيذ العملية على أن يبلغنى فور الانتهاء من تصفية منزل الجيزة. وقد حضر المشير مبكرا عن الموعد بحوالى ثلث ساعة، فقام كل من شعراوى جمعة وسامى شرف بتنفيذ الجزء المخصص لهما فى العملية، وبقيت مع الآخرين حتى أنهيت تعليماتى على عجل وانصرف ثلاثتهم للتنفيذ. لم تكن هناك مشكلة فى تجهيز القوات لأن قوات الشرطة العسكرية وعربات المخابرات الحربية كانت فى حالة استعداد دائم. وعاد شعراوى وسامى بعد أكثر من ثلث ساعة وتم القبض على سائق عربة المشير، كما تم القبض على العقيد محمود طنطاوى أحد أفراد مكتب المشير. وهو من خيرة ضباط القوات المسلحة خلقا وعلما، ولكن للضرورة أحكامها إذ دفعته الظروف دفعا ليجد نفسه فى الصف المناهض للشرعية. ولما سألت شعراوى وسامى عن سبب طول مدة تنفيذ العملية أخبرانى بأن الأخ محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس أثار ضجة كبرى، إذ بمجرد شعوره بما حدث استنكر أن يتم ذلك من وراء ظهره ودون إخطاره واعتبر ذلك عدم ثقة من الرئيس بسكرتيره الخاص، وقد تمادى محمد أحمد فى احتجاجاته فاضطرا إلى البقاء معه حتى يهدئا من ثورته. تم وضع عربة المشير فى الجراج الخاص. وأمرت السائق «عثمان» أن يقف بعربتى على الباب الداخلى لمنزل الرئيس. والرجل لا يدرى ماذا يحدث لا فى الخارج ولا فى الداخل، إلا أنه لابد أنه شعر بأن شيئا غير عادى يجرى تنفيذه. وفى نحو التاسعة مساء فضلت أن أدخل منزل الرئيس، وبقي سامى وشعراوى فى مكتب الأول، واتفقت مع سامى أن يحول لي المكالمة التليفونية المنتظرة من محمد فوزى بمجرد اتصاله. وفعلا دخلت منزل الرئيس ووجدت فى الصالة الخارجية بعض ضباط الياوران، وجلست بجوار حجرة الصالون حيث كان اجتماع الرئيس بالمشير لألتقط أنفاسى. كان فى الداخل خلاف الرئيس والمشير كل من السادة زكريا محيى الدين وحسين الشافعى وأنور السادات. وكان الذى يتكلم هو الرئيس وكان الذى يرد هو المشير. وقد سمعته وهو يقول للمشير: «عليك يا عبد الحكيم تقدير الموقف الصعب الذى تمر به البلاد. وعليك أن تلزم منزلك فى هذه الفترة الحرجة». كان الحديث يدور هادئا فى معظم الأحيان ولكن كانت الأصوات ترتفع فى حدة فى أحيان أخرى، ولكن لم يكن فى مقدورى متابعة كل ما يجرى لأنه لم يصل إلى أذنى إلا بعض الكلمات بين وقت وآخر، وكنت منهكا ومتعبا بحيث كنت أميل للاسترخاء قليلا قبل ما ينتظرنى فى اليوم التالى. وكان المشير ـ حتى منتصف الليل ـ مصرا على موقفه المتعنت، ولا شك أن «تجمع أصدقائه» فى الجيزة كان له دخل كبير فى إصراره هذا. كان الرجل يلعب على عامل الوقت لعل وعسى أن يلين الرئيس كما حدث فى المرات السابقة. وفى هذه الأثناء كان «فوزى» قد اتصل بى مرتين : مرة حينما وصل إلى منزل الجيزة على رأس قواته ليخبرنى بإتمام حصاره المنزل، ومرة أخرى ليبلغنى أن حرائق شوهدت فى المنزل، والتى ظهر بعد ذلك أنها عبارة عن عملية حرق الأوراق المهمة بواسطة بعض الضباط الموجودين فى منزل الجيزة والتى قد تدينهم لو تم القبض عليهم. وقد أخبرت الرئيس بذلك وأكدت له أن هذه علامة على حالة الانهيار التى أصبح فيها هؤلاء الضباط. وفى منتصف الليل تقريبا خرج الرئيس من حجرة الصالون، ولما وجدنى بالخارج اصطحبنى معه واضعا ذراعه فى ذراعى إلى حجرة المكتب على الجانب الآخر من الردهة الخارجية، وكان كلانا يدخن بشراهة وخيل لي أن الرئيس يكاد يقضم سيجارته. وفور دخوله إلى المكتب طلب عباس رضوان تليفونيا من رقم مباشر من الذاكرة، وقال له: «عباس أنت المسئول عن فض الموقف فى الجيزة». ولست أدرى هل تم اتفاق الرئيس مع عباس قبل هذا الاتصال أم لا، لأن كلام الرئيس لعباس كان موجها لشخص يعرف ما يجرى. وبعد ساعة أخرى خرج الرئيس من الصالون للمرة الثانية واتجهت معه إلى المكتب ليعاود الاتصال مع عباس، وكان حديثه هذه المرة محتدا قاطعا وهو يقول له: «أنت يا عباس مسئول عن عدم فض الموقف». وبعد انتهاء المحادثة ذكر الرئيس أن الموقف فى نظره يتعقد وأن عباس يتلاعب. ورددت على الرئيس: «مازال أمامنا أربع ساعات حتى الفجر، وحل الموقف هناك فى منزل الجيزة لأن المشير سيبقى على عناده ما دام منزل الجيزة باقيا على أوضاعه». وأمن الرئيس على ذلك وصعد إلى الدور العلوى بمفرده ليستريح بعض الوقت. وليس صحيحا ما ذكره الرئيس السادات فى كتابه «البحث عن الذات» من أن السيدين زكريا محيى الدين وحسين الشافعى صعدا مع الرئيس إلى الدور العلوى، وأنه بقي وحده مع المشير فى حجرة الصالون. ولكن هى عادة الرئيس السادات فى أن ينسب كل شيء إلى ذاته ولو تم ذلك على حساب الحقيقة. دموع السادات دخلت حجرة الصالون وسلمت على الجميع. كان المشير جالسا على أريكة من الآرائك وحينما رآني قال: «أهلا وسهلا بوزير حربيتنا، الله ده الموقف مجهز تماما والمسألة محبوكة على الآخر». كان أنور السادات هو الوحيد الذى يجلس صامتا والدموع على خديه، أما السيد حسين الشافعى فكان يبدو غير مهتم بما يجرى، أما السيد زكريا محيى الدين فكانت ملامحه جامدة لا تدل على شيء. وهنا خرج المشير ذاهبا إلى دورة المياه وخرجت معه، وكان الرجل ودودا معي يتحدث فى ابتسامته الهادئة. كانت أعصابه هادئة ولم يكن منفعلا بالرغم من أنه كان يدرك الموقف الحرج الذى أصبح فيه. وفجأة خرج المشير من دورة المياه وفى يده كأس زجاجية بها بعض المياه، وقال بأعلى صوته وهو يرمى الكأس على طول ذراعه: «اطلعوا بلغوا الرئيس أن عبد الحكيم خد سم لينتحر». ودخل فى هدوء إلى حجرة الصالون ليجلس على الأريكة ذاتها وهو يبتسم فى هدوء وكأنه لم يفعل شيئا. وقد انزعجت أشد الانزعاج حينما سمعت بذلك، وصعدت إلى الدور العلوى حيث يوجد الرئيس قفزا فوق الدرج، واستقبلنى الرئيس من أعلى السلم وقلت له: «المشير خد سم وانتحر». فقال لي الرئيس: «عبد الحكيم أجبن من أن ينتحر. لو كان عاوز ينتحر كان انتحر لما ودانا فى داهية فى سيناء». ويبدو أن درجة انزعاجى كانت شديدة لدرجة أن الرئيس كان يحلو له بعد ذلك أن يحكي ذلك فى مناسبات عديدة، وكان يضيف قائلا: «تمثيلية عبد الحكيم خالت على أمين». حدث هرج ومرج بين الموجودين، أما «الثلاثة الكبار» فكانوا على حالهم لم يتحركوا أو ينفعلوا، ولكن خيل لي أن عبرات الرئيس السادات زادت كثافة. ودخل الدكتور الصاوى طبيب الرئاسة مسرعا وفى يده شنطته العتيدة، ولما لم يستجب المشير للعلاج الذى كان يريده الدكتور الصاوى تقدم السيد حسين الشافعى، ليعبط، المشير حتى أعطاه الدكتور الحقن اللازمة، وهدأ كل شيء من جديد. ورأى المشير أن يخرج إلى الحديقة ليشم بعض الهواء وخرجت معه. كان الرجل وفى حركات تمثيلية يكثر من النظر إلى السماء ثم يتنهد ثم يعود لينظر إلى السماء، وهنا دار بينى وبينه الحديث الآتى : أمين: كيف حالك ؟ عامر: أنا كويس والحمد لله. أمين: سيادة المشير، هل يصح هذا الذى يحدث ؟ هل يمكن أن يطور المشير الموقف إلى هذا الحد ؟ أنا أكاد لا أصدق أن الأمور تصل إلى ما تصل إليه الآن. عامر: يا أمين أنت لا تعرف شيئا. أمين: كيف لا أعرف ؟ الوقت يمر ولا بد من حسم الموقف. عامر: لحساب من يا أمين يحسم الموقف ؟ اسكت أنت لا تعرف أى شيء. وساد الصمت بيننا وأخذ يمشى جيئة وذهابا وعدنا ثانية إلى حجرة الصالون. ولم أجد هناك السيد حسين الشافعى، وحينما خرجت إلى الصالة الخارجية وجدته جالسا وأمامه طبق من الفاكهة وهو مقبل عليه فى اطمئنان، ودعانى إلى تناول بعض الفاكهة ولكن لم يكن لي شهية لأى شيء وأنا أرى ما أرى. وأخيرا قال : أنا رأيى أن المشير يعود إلى منزله والموضوع مش نافع. الفجر قارب الظهور فماذا سيقول الناس عندما يرون ما يحدث فى منزل الجيزة؟! وبقينا ندور فى حلقة مفرغة. كان الجميع يلعبون على عامل الوقت. وفى نحو الساعة الخامسة صباحا استدعانى أحد ضباط الياوران إلى التليفون ذاكرا أن الفريق محمد فوزى على الخط. وأخذت التليفون وكان فوزى على الجانب الآخر من الخط يقول: «المأمورية انتهت يا أفندم دون أى صدام والمنزل خال الآن»، فقلت له: «الحمد لله ومتشكر». وأسرعت إلى الدور العلوى لأبلغ الرئيس بالسيطرة على الموقف دون صدام، فرد الرئيس: «الحمد لله». ولم أدخل حجرة الصالون ولم أشاهد أحدا بعد ذلك، بل غادرت منزل الرئيس وعبرت الشارع إلى مكتب سامي، حيث وجدته جالسا هو وشعراوى، ومن خلال النافذة رأينا إحدى العربات تتحرك بعد فترة من الوقت وفيها ثلاثة : المشير عبد الحكيم عامر والسيد زكريا محيي الدين والسيد حسين الشافعى. ولا أدرى ماذا كان يعتمل فى صدر المشير ولكنه أصبح الآن شخصا غير الذى وصل أول الليل إلى منزل الرئيس، كان شخصا نزعت عنه سلطاته وعاد إلى الشرعية بعد ليلة عصيبة ورغم أنفه. وأترك للفريق فوزى الحديث عن تفاصيل ما قامت به قوته وهى تحاصر منزل الجيزة نقلا من كتابه «حرب الثلاث سنوات 1967 ـ 1970». بعد أن صدر الأمر توجهت إلى منزل الرئيس بمنشية البكرى، وعلمت أن المشير قد حدد له موعد لمقابلة الرئيس عبد الناصر فى الساعة 7 مساء نفس اليوم بمنزل الرئيس، وأن المشير سيبقى هناك حتى انتهاء مهمتى فى تطهير المنزل. وعندما وصلنا إلى الباب الرئيسى لمنزل المشير وجدته مقفلا بسلسلة حديدية وقفل، وخلف الباب كان يقف شمس بدران وعثمان نصار وعبد الحليم عبد العال وجلال هريدى وآخرون، وجميعهم مسلحون بالرشاشات القصيرة وفى أيديهم وجيوبهم قنابل يدوية. وأخطرت شمس بدران فلم يذعن للأمر. وفى تلك اللحظة وصل عباس رضوان ـ وهو يقيم بمنزل قريب من منزل المشير ـ ليسأل عليه، وعندما علم بعدم وجوده بالمنزل طلب مني الانتظار فترة لحين معرفة الموقف داخل منزل المشير، واصطحب معه شمس بدران بينما بقي الآخرون خلف باب الحديقة الخارجى. خلال النقاش صدرت بعض طلقات الرصاص من فوق سطح المنزل للإزعاج، ولم يرد عليها أحد من القوة حسب أوامرى، كما وصلنى بلاغ عن مشاهدة دخان حريق علمت فيما بعد أن مجموعة شمس بدران قامت بحرق وثائق وخرائط سرية تجرمها لو وقعت فى يدى. ثم خرج عباس رضوان وشمس من داخل المنزل، وفتحا باب الحديقة الخارجى وطلبا مني الدخول مع قائد القوة قائلين: مستعدين لتنفيذ ما تطلبه، وشاهدت ضباط شمس بدران يلقون أسلحتهم والقنابل اليدوية على الأرض. أصدرت الأمر رقم (1) من الميكروفون اليدوى طالبا نزول جنود سريتى الشرطة العسكرية بدون أسلحة وذخيرة أولا، حيث كانت لوارى حمولة 3 أطنان جاهزة لركوبهم بعد تفتيشهم حيث أخذوا إلى السجن الحربى. تلا ذلك صدور الأمر رقم (2) وهو يخص نزول الأفراد المدنيين بدون أسلحة أو ذخيرة، وانتظرت تنفيذه مثل الأمر الأول. ثم أصدرت بقية الأوامر على التوالى، كل أمر يأخذ وقته فى التنفيذ قبل صدور الأمر الذى يليه وهكذا. رحلت الضباط المتقاعدين إلى السجن الحربى، وكان آخرهم شمس بدران الذى رحل إلى سجن القلعة، ثم بدأنا فى جمع الأسلحة من البدروم والدور الأول والسطوح والجراج ورحلت إلى معسكر عابدين فى حمولة 13 لورى سعة 3 أطنان واستغرقت هذه العملية طوال الليل. ثم عينت الحراسة على منزل المشير وعينت اثنين من العمداء للحراسة 24 ساعة على المنزل، وتم تركيب تليفون خارج المنزل للاتصال، وعند وصول المشير إلى منزله تم تحديد إقامته بين أهله وأولاده تحت الحراسة الشرعية للدولة. هذه رواية الفريق فوزى عن مأموريته التى كلف بها فى إطار العملية. وقد يكون سرد بعض المعلومات الأخرى والتى تعيها الذاكرة فيه استكمال للصورة. فقد أعلن الضباط عند وصول القوات أنهم سوف يقاومون بالقوة، واحتلوا أماكن داخل المنزل سبق إعدادها لذلك بالاشتراك مع المدنيين المسلحين الموجودين داخل المنزل، وقام كل من شمس بدران وجلال هريدى بتوجيه الحديث إلى أفراد القوة التى تحاصرهم بغرض استمالتهم إلى جانبهم وعدم تنفيذ الأمر الصادر باعتقالهم. وفى أثناء التفتيش عثر على كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والقنابل اليدوية، كما عثر على نسخ كثيرة من استقالة المشير عام 1962 وكانت معدة فى مظاريف لتوزيعها، كما عثر أيضا على بعض ماكينات الكتابة وآلات الطبع. وفى حوالى الساعة السادسة صباحا يوم 26 اغسطس 1967 وبعد انتهاء الليلة، اتصل الرئيس تليفونيا بسامى شرف ليطمئن على الأحوال وأخبره بأنه يريد أن يحدثنى، وفعلا بدأت الحديث مع الرئيس. كان يسأل ليطمئن وقال: «شكرا على ما بذلته، والله كانت ليلة عصيبة، هل أفطرت»؟ فقلت له: «نعم الحمد لله». ولم نكن قد ذقنا للأكل أو النوم طعما، ثم سأل عن المأمورية الأخرى وهل كل شيء جاهز، فطمأنته أن كل شيء معد ـ كان يقصد ذهابى إلى جهاز المخابرات العامة وتسلمى السلطات هناك. جلسنا نعيد ترتيباتنا لهذه المأمورية الثقيلة الجديدة، وكان عليّ أن أبدأ الساعة العاشرة فى الذهاب إلى هناك. وحتى نكمل صورة ما حدث بعد ذلك من تطورات خطيرة وجدتنى فى حيرة من الطريقة التى أكمل بها سرد الأحداث. فقد شاركت بنفسى فيها كما شارك غيرى، ويمكن أن أكتب سرد ما تم لتكون معلوماتى هى المنبع الوحيد، ولكن قد يكون هذا الإجراء غير محايد فى نظر البعض، ولذلك اخترت مصدرا يقص علينا الحقيقة، هذا المصدر هو كتيب صغير أسود الغلاف كتبه المستشار محمد عبد السلام اسمه «سنوات عصيبة ـ ذكريات نائب عام»، والسبب فى هذا الاختيار يرجع إلى عوامل كثيرة موضوعية : مؤلف الكتاب مستشار من رجال العدالة، ثم هو نائب عام فى فترة الأحداث التى تضمنها كتابه، ثم كان هو المحقق فى تلك الأحداث التى تلت «الليلة العصيبة». ثم يبدو من كتاباته أنه لم يكن مقتنعا بالعهد الذى خدم فيه العدالة فى أخطر مناصبها، فرسم الغلاف نفسه يدل على ذلك؛ إذ تصور «خنجرا» مصوبا إلى كتاب ضخم ربما يرمز إلى الدستور والدماء تسيل بغزارة. شخص بهذه المشاعر لا يمكن أن يتهم بالتحيز لنظام هذه شهادته عنه. ثم نجد أن الرجل تقديرا منه لخطورة الأحداث التى سيتولى تحقيقها بعد الليلة العصيبة، يتخذ من الإجراءات التى تجعل «التحقيق مجردا من أى رأى مسبق، رغما عن أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيماوية وظروف الحال أكدت أن المشير عامر مات منتحرا بتناول مادة سامة هى مادة الأكونتين»، فحرص النائب العام أن يتولى بنفسه التحقيق، بل وينبه على معاونيه من أعضاء النيابة أن يلتزموا فى تحقيقاتهم أقصى ما يطالب به المحقق النزيه من الحيدة وعدم التأثر بفكرة معينة، وإفساح المجال لإثبات أى أقوال تبدى مهما تكن خطورتها لتكون بعد ذلك محلا للفحص والاستنباط واستخلاص النتائج الصحيحة منها. ويستطرد قائلا: «رأيت أن أسأل ـ انطلاقا من هذه الاعتبارات ـ الفريق أول محمد فوزى والمرحوم الفريق عبد المنعم رياض وغيرهما من الضباط والأطباء، ومن الناحية المضادة سؤال أسرة المشير الذين اتهموا السلطات الحاكمة بقتله. وقد رأيت أن أسأل أفراد الأسرة فى منزلهم حتى يكون التحقيق بعيدا عن أى مظهر من مظاهر السلطان أو أى مظنة من مظان الإرهاب. وطلبت لنفس الاعتبارات من ضباط المباحث العامة وغيرهم من رجال الشرطة الذين صاحبونى فى الطريق أن يبقوا بعيدا عن المنزل مسافة تزيد على المئة متر». ثم يقول: «ولما كان كل فرد من أسرة المشير يبدى استعداده للتوقيع على أقواله بعد تسجيلها، فكنت أصر على ألا يوقع إلا بعد أن يطالع ما أثبت على لسانه». إذن فالرجل اتخذ كل حيطة يمكن أن يتخذها لكى يكون تحقيقه عادلا لا شبهة عليه. شهادة النائب العام سرد الرجل فى كتابه الحقائق التالية : الحقيقة الأولى: استدعى المشير من منزله يوم 25 اغسطس 1967 إلى منزل رئيس الجمهورية حيث أفهم أن النية اتجهت إلى تحديد محل إقامته، فحاول الانتحار بمادة سامة وأسعف بالعلاج، وأعيد إلى منزله وقد أيقن أن حريته قد تتعرض فى وقت ما لمزيد من القيود، فظلت فكرة الانتحار مسيطرة عليه وهيأ نفسه لتنفيذها إذا ما وصل الأمر إلى تقييد حريته بدرجة تفوق قوة تحمله. الحقيقة الثانية: فى يوم الأربعاء 13 سبتمبر 1967 أصدر رئيس الجمهورية أمرا بنقل المشير عامر من منزله إلى استراحة أعدت بالمريوطية فى منطقة الهرم، ليقيم فيها منفردا تحت الحراسة تمهيدا للتحقيق معه فى شأن ما أسند إليه. وقد نقل وزير الحربية هذا الأمر إلى الفريق أول محمد فوزى لتنفيذه، فقام ومعه الفريق عبد المنعم رياض والعميد سعد عبد الكريم وعدد من الضباط والجنود ووصلوا إلى منزل المشير الساعة الثانية والنصف بعد ظهر ذلك اليوم، وانضم إليهم قائد الحرس المحلى العميد محمد سعيد الماحى. وقابل العميدان سعد والماحى المشير فى غرفة الاستقبال وأخطراه بأمر رئيس الجمهورية فأبى تنفيذه. ودخل الفريق رياض ليحاول بنفسه إقناعه، ولكنه أصر على الرفض وغافل الحاضرين وتناول بقصد الانتحار مادة الأكونتين السامة ممزوجة بقطعة من الأفيون وورقة من السلوفان للتخفيف من آلام التسمم، وعندئذ شوهد وهو يلوك فى فمه مادة أدرك الفريق رياض والسيدة نجيبة كريمة المشير على الفور أنها مادة سامة وأنه تناولها بقصد الانتحار. ونقل المشير إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، وكان يلوك أثناء الطريق تلك المادة، وقبل بعد إلحاح شديد من الفريق رياض إخراجها ولفظ ما فى فمه فى يد الرائد عصمت محمد مصطفى من الشرطة العسكرية والذى كان يرافقه فى العربة، وكانت عبارة عن ثلاث ورقات سلمها الرائد عصمت إلى المستشفى عند وصوله. وقد أجريت الإسعافات اللازمة هناك، وأصر الفريق أول فوزى على نقله إلى استراحة المريوطية بعد هذه الإسعافات. الحقيقة الثالثة: وصل المشير إلى المريوطية الساعة الخامسة والنصف مساء يوم 13 سبتمبر 1967 وترك هناك تحت رعاية النقيب طبيب مصطفى بيومى حسنين الذى ظل يتردد عليه طوال الليل، ولاحظ أنه يشكو من سعال وقيء فأعطاه عقاقير مهدئة وبعض الإسعافات. وفى الساعة العاشرة صباح اليوم التالي تسلم الرائد طبيب إبراهيم البطاطا نوبته فى الرعاية الطبية، ولاحظ توالى القيء وأصيب المشير بحالة هبوط لم يتمكن بسببها من تناول طعام الغداء، فاضطر الطبيب إلى تغذيته عن طريق الحقن فى الوريد بمحلول الجلوكوز. وفى السادسة مساء دخل المشير إلى دورة المياه وكان يتقيأ ثم عاد إلى فراشه، ولكنه مات فى حضور الطبيب الساعة 6.35 مساء. الحقيقة الرابعة : تولت النيابة التحقيق قبيل منتصف الليل بواسطة النائب العام، وفحص الجثة ظاهريا بحضور وكيل وزارة العدل لشئون الطب الشرعى ووكيل عام المصلحة. ووجد أسفل جدار البطن من الناحية اليسرى قطعة مستطيلة من ورق لاصق يخفى شريطا معدنيا يحتوى على ثلاث فجوات بكل منها مسحوق من مادة ثبت من التقرير الطبى الشرعى والتحليل أنها مادة الأكونتين السامة، وأن المشير توفى بسبب تناول هذه المادة ممزوجة بالأفيون منذ محاولة نقله من منزله فى الساعة 2.30 بعد ظهر الأربعاء 13 سبتمبر 1967. وتحدث المستشار محمد عبد السلام فى كتابه عن تقرير الطب الشرعى الذى أورد أن سم الأكونتين مخبأ وهو ممتزج بالأفيون على جسد المشير، وأن ما تناوله مغافلا الحراس فى منزله كان من هذه المادة، وأن الشريط اللاصق الذى يخفى مادة الأكونتين السامة والمخبأ فى موضع دقيق من جسم المشير قد تكرر نزعه وتثبيته بما يصلح تفسيرا لمحاولة الانتحار أكثر من مرة، وأن استمرار أعراض القيء يومى 13، 14 يحتمل معه أن تكون وفاة المشير قد حدثت نتيجة تسمم من مادة الأكونتين التى تناولها فى منزله ممزوجة بالأفيون يوم 13 ـ وهى مادة يمكن أن يكون أثرها فوريا أو يتراخى إلى أكثر من 18 ساعة ـ وأن هناك احتمالا أن يكون المشير قد استبطأ مفعول السم فتعجل النهاية وأخذ قدرا آخر منه عندما دخل دورة المياه يوم 14 قبيل وفاته. ثم ربط التقرير بين بعض ما أثبته فحص أوراق السلوفان التى لفظها المشير فى السيارة من احتوائها على أجزاء مفضضة لامعة بها آثار مضغ، وبين ما هو ثابت من وجود مسحوق الأكونتين معبأ فى جزء من شريط معدنى مفضض لامع ومخبأ على جسم المشير بورق لاصق، مستخلصا من ذلك أن المشير تناول فى منزله قدرا من مادة الأكونتين الموضوعة فى الشريط المعدنى المفضض، مع احتمال أن يكون هذا القدر وحده هو الذى تسبب فى حدوث الوفاة، واحتمال أن ما عجل بها هو القدر الآخر الذى أخذه فى الاستراحة. الحقيقة الخامسة: أما عن مصدر المادة السامة فقد ثبت «أن المشير حصل عليها من هيئة المخابرات العامة. إذ إن السيد صلاح نصر تسلم فى 10 ابريل 1967 ستمئة ملليجرام من مادة الأكونتين السامة معبأة بمقادير متساوية فى ست فجوات كانت معدة أصلا لوضع حبات الريالتين فى الأوراق المعدنية الخاصة. واعترف صلاح نصر بتسلمه مادة سامة وضعها فى مكتبه، وظلت فيه بحالتها إلى أن مرض يوم 13 يونيو 1967 وانتقل من مكتبه يوم 3 يوليو إلى إحدى الاستراحات حتى أعفى من منصبه يوم 26 اغسطس 1967 دون أن يدرى شيئا عن مصير المادة التى تركها فى مكتبه. وقد ضبط بهيئة المخابرات العامة باقى المادة ومعها ورقات معدنية كانت معدة لوضع حبات الريالتين، وثبت من التقرير الشرعى والصور الشمسية أن إحدى هذه الورقات تكمل الورقة المضبوطة على جثمان المشير وبها مادة الأكونتين. وبذا تحقق أن المشير حصل على المادة السامة التى بها انتحر من إدارة المخابرات». الحقيقة السادسة: نفت أسرة المشير فى أقوالها انتحاره، إلا أن النائب العام «يرد على ذلك بأن هذه الشبهات فوق أنها مردودة بما سبقت الإشارة إليه من أدلة قاطعة بوقوع الحادث انتحارا، فإنها لا تعدو أن تكون ظنونا ليس من شأنها أن تؤدى إلى النتيجة التى تصورتها ابنتا المشير بوفاة والدهما فى ظروف أليمة من جهة أخرى. ولا جدال فى أن المشير مات منتحرا، ولا جدال فى أن ابنتيه كانتا على غير حق فى تصوير الحادث على أنه فعل عمد». الحقيقة السابعة: وأخيرا يقرر النائب العام أن المشير هو الذى تناول بنفسه وبمحض إرادته المادة السامة التى أدت إلى موته، ولا جدال فى أن المشير مات منتحرا، وختم حديثه بالآتى: «ومن وقت أن بدأ التحقيق إلى ما بعد انتهائه بزمن طويل وحتى كتابة هذه الذكريات، والتساؤل يلاحقنى فى كل مجلس يضمنى مع آخرين ويأتى فيه ذكر الحادث : هل انتحر المشير حقا ؟ وكثيرا ما كان التساؤل يرد فى لهجة استنكارية مفعمة بالشك، بل كان البعض يؤكد أنه قتل رميا بالرصاص على الرغم من الماديات التى قطعت بأن جسده كان خاليا من أية آثار للمقاومة أو العنف أو الإصابات الظاهرة أو الباطنة، وعلى الرغم من أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيماوية وظروف الحال أكدت أنه مات منتحرا بتناول مادة سامة هى مادة الأكونتين». وقام عصام حسونة وزير العدل بإبلاغ مجلس الوزراء فى جلسة 10 اكتوبر 1967 بقرار النائب العام. وكان انتحار عامر مأساة لشخصه بدأها بمأساة تسبب فيها للبلاد. ولا شك أن يومى 25، 26 أغسطس 1967 من الأيام الخطيرة التى مرت بها ثورة يوليو 1952. فما تم فيهما وما تلاهما من أحداث شكل منحنى فى مسار الثورة خاصة وهى تمر بأقسى الاختبارات والتحديات التى واجهتها بعد النكسة. بقاء المشير عامر رحمه الله على رأس القوات المسلحة مدة طويلة أشعره أنه غير قابل للعزل، فعصى أوامر السلطة الشرعية. تولى المشير سلطات مدنية خطيرة إلى جانب مسئولياته العسكرية الأشد خطرا، جعله لا يعطى أيا من المسئوليتين حقها من الاهتمام. انفراد المشير بسلطاته المتعددة دون رقابة على ما يجرى فى هذه الآلة المعقدة وهى القوات المسلحة، جعل أمن البلاد معلقا على تقدير شخص يخطئ فى أغلب الأحيان، مما يؤدي بمستقبل البلاد الى هوة سحيقة. تولى القيادات على مختلف المستويات لمواقعها على أساس الولاء وليس الخبرة والكفاءة يؤدى إلى الهبوط بمستوى القدرة القتالية للقوات. وأخيرا فإن تحديد الفواصل القاطعة والواضحة بين المسئوليات المدنية والعسكرية أمر حتمى، وإلا بقى السؤال الخطير قائما: من مسئول أمام من؟ والدول التى لا تتعلم من أخطائها أو أخطاء غيرها مصيرها إلى الفناء. ينشر بترتيب مع وكالة الاهرام للصحافة

Email