إنرون .. فضيحة كل النظام الأمريكي، بقلم: حسين النديم

ت + ت - الحجم الطبيعي

يؤكد عالم الاقتصاد الأمريكي ليندون لاروش والعاملون معه مثل الباحث الاقتصادي جون هوفيل الذين حذروا من مغبة تصديق أسطورة شركة إنرون وسياسة تحرير الأسعار في قطاع الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى في الأعوام الثلاثة الماضية، ان شركة إنرون كانت تمارس عملية نهب منظمة للمستهلكين الأمريكيين والاقتصاد الأمريكي أما البنوك الكبرى فقد كانت تمارس بدورها عملية نهب منظمة عن طريق إنرون. كان ذلك ممكنا لسببين. أولهما انطلاق سياسة رفع قيود تنظيم الأسعار «تحريرها» وثانيهما وأهمهما هو تحول النظام المالي والاقتصادي العالمي إلى كازينو للمضاربات والمراهنات خاصة منذ أن قررت مجموعة الدول الصناعية السبع بعد ما تمت تسميتها بالأزمة الآسيوية والأزمة الروسية وانهيار صندوق الاستثمارات المضاربية لونج تيرم كابيتال مانيجمنت عام 1998 بمحاولة حل المشكلة عن طريق ضخ كميات هائلة من السيولة والأدوات المالية إلى الأسواق العالمية للتغلب على تلك الأزمة. وتمكنت فعلا من تأخيرها لكن لم تحلها، بل زادتها خطورة حيث أصبح لدينا سوق مالي عالمي يداول 400 ترليون دولار سنويا في أسواق ما يسمى العقود المالية الآجلة، وهي مراهنات على مراهنات على مضاربات في سوق المال والسلع. وهذا ما نشطت فيه شركة إنرون حيث كانت تمارس السمسرة في سوق المراهنات على أسعار الطاقة الكهربائية والغاز الطبيعي. بداية السقوط في كاليفورنيا في يناير من عام 2001 أعلنت شركتا توزيع الكهرباء في ولاية كاليفورنيا ساذرن كاليفورنيا اديسون وباسيفيك غاز أند ألكتريك العموميتان عن عزمهما إعلان الإفلاس لعدم قدرتهما على تسديد قيمة الطاقة التي تشتريانها من الشركات المنتجة للكهرباء الموجودة في الولاية وخارج الولاية وكانت حكومة الولاية منذ نهاية العام 2000 قد بدأت بإصدار تنبيهات للمواطنين تحثهم على اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير الطاقة، وبعد ذلك بدأت الولاية بتطبيق نظام قطع الكهرباء المتتالي في المناطق المختلفة أما في صيف عام 2001 فقد تفاقمت الأزمة حتى أصبحت الولاية الحارة تواجه وضعا أشبه بأوضاع دول العالم الثالث. في عام 1996 تم التصويت في ولاية كاليفورنيا على مشروع قانون تحرير الأسعار وإعادة هيكلة قطاع إنتاج وتوزيع الكهرباء في الولاية، وكانت كاليفورنيا رائدة في ذلك المجال وتبعتها بقية الولايات. تم التصويت تحت ضغط حملة دعائية كبيرة لعبت فيها شركات الطاقة الخاصة الكبرى دوراً كبيراً مثل إنرون و ريلاينت و «ايل باسو» و «داينجي» عن طريق حملات إعلانات هائلة وتبرعات سياسية رشاوى بالعربي الفصيح لأكبر حزبين وللشخصيات السياسية في أمريكا. وقد وعدت هذه الشركات المواطنين والسياسيين الأمريكيين أن خصخصة سوق الطاقة وفتح المجال للتنافس بين الشركات الخاصة سيعود على المستهلكين بالفائدة نتيجة لانخفاض أسعار الكهرباء والغاز بسبب تنافس هذه الشركات على توفير أوطأ الأسعار وقد تم استدعاء رئيس شركة إنرون كينيث لاي أمام لجنة التجارة بالكونجرس عام 1996 للدفاع عن هذه السياسة الجديدة قائلاً إن نظام الكهرباء الحالي هو من بقايا عهد بائد لقد آن الأوان لإدخال المنافسة في تجارة الطاقة بهذا سنحصل على خفض مقداره 30 -40% في الأسعار. ما وقع هو أن النظام السابق الذي عملت عليه أمريكا في الخمسين سنة الماضية حيث تنتج شركات الطاقة الكهرباء وتبيعها للمستهلكين بسعر التكلفة زائدا هامشاً من الربح في عقود طويلة الأمد لتحقيق استقرار في الاقتصاد وحماية المستهلكين قد ألغي وحل محله نظام العقود القصيرة الأمد والسوق الآنية حيث تتمكن الشركات الكبرى المسيطرة على السوق وسماسرتها بالتحكم بالمعروض والمضاربة والاحتكار لرفع الأسعار ويقول هوفيل أن الهدف من وراء سياسة تحرير الأسعار كان تمكين المؤسسات المالية الكبرى من تضخيم فقاعة أصول مالية بواسطة الإيرادات الآتية من فواتير مستهلكي الكهرباء. ولكي يتم ذلك كان عليهم إيجاد طريقة لوضع وسطاء ماليين بين الشركات المنتجة والمستهلكين. فبينما كانت الشركات العامة تنتج وتوزع الكهرباء بنفسها في الماضي، أصبح هنالك عدد هائل من الوسطاء التجاريين والمضاربين والسماسرة وشركات المحاسبة والمحاماة والبنوك يمر عبرها التيار الكهربائي من المنتج إلى المستهلك وتستقطع كل واحدة من هذه الجهات نصيبها من فاتورة الكهرباء ولكي تستمر هذه الشركات المخصصة في الإنتاج والتوزيع تم تأسيس هيئتين مشرفتين هما إندبندنت سيستم اوبيرايتورiso التي تكفلت بتنظيم عملية توزيع الكهرباء وضمان تدفق الطاقة من المنتجين إلى الشركات الموزعة وإصدار بيانات العرض والطلب، والمنظمة الثانية هي بورصة الطاقة، ويتم فيها تقديم المناقصات من قبل المنتجين، وتحدد أسعار الجملة قبل يوم واحد فقط «!» من موعد التوزيع عند «أعلى» سعر مقدم في ذلك اليوم، حتى وإن قدمت شركة ما سعراً أدنى . إنرون مخلوق من مخلوقات البنوك يقول جون هوفيل الذي قدم شهادة أمام «لجنة الطاقة والموارد الطبيعية في الكونجرس يوم 5 فبراير في إطار التحقيقات حول فضيحة إنرون، أن شركة إنرون ما هي إلا مخلوق من مخلوقات كازينو القمار العالمي الذي طبق آليات أسواق العقود الآجلة على أسواق الكهرباء والغاز الطبيعي. وكان جيفري سكيللينج قد ذكر في لقاء مع صحيفة «بيزنيس ويك» في فبراير 2001 عندما كان وقتها رئيسا للشركة أن أكثر شيء منطقية هو أن يكون مالكو محطات توليد الطاقة وشبكات نقلها هي المؤسسات المالية بسبب قدرتها على إيجاد الرأسمال الرخيص على أساس ذلك ستمتلك البنوك الطاقة وتبيعها لأعلى المزايدين عن طريق وسطاء مثل إنرون باستخدام شبكة معقدة من الأدوات المالية من العقود الآجلة والمقايضات سوابس وغيرها. وكان تصريح سكيللينج بمثابة تأكيد لشكوك لاروش بأن الهدف السري من سياسة تحرير الأسعار هو توجيه جزء كبير من النقد المتداول في سوق الكهرباء إلى خزائن البنوك والمؤسسات المالية المتعطشة دوما للمزيد من السيولة حتى تسند فقاعتها المالية. من جهة أخرى تشكل هذه السياسة جزءا من مخططات المؤسسات المالية لفترة ما بعد انهيار هرم السوق المالية العالمية المقدر بـ 400 تريليون دولار، حيث ستكون قد استحوذت على معظم المؤسسات المهمة والحيوية لبقاء المجتمع من محطات الطاقة والمواد الأولية الثمينة ومصادر الطاقة الطبيعية، ليس في أمريكا وحدها بل في أرجاء أخرى من العالم حيث قطعت سياسات الخصخصة وتحرير الاقتصاد أشواطا كبيرة فبعض المؤسسات المصرفية الكبرى في وول ستريت مثل جولدمان ساكس ومورجان ستانلي وميريل لينتش النشطة في قطاع التجارة بالطاقة تنوي استغلال حالة انهيار إنرون كذريعة لتوسيع نطاق سيطرتها على هذه التجارة وقد تم التعبير عن هذه النية علنا في صحيفتي «نيويورك تايمز» في 29 نوفمبر و «وول ستريت جورنال» في 3 ديسمبر، حيث ذكرت «الجورنال» أنه بالرغم من أن شركات الخدمات المالية تعاني مشاكل بسبب مديونية شركة إنرون لها بما يقدر بمليارات الدولارات، إلا أن هناك بعض الرابحين في شركات وول ستريت التي ستستحوذ على حصة إنرون من التجارة في سوق الطاقة التي كانت تهيمن عليها إنرون من قبل. ويؤكد جون هوفيل في شهادته أمام لجنة الكونجرس أن إنرون بأشكال متعددة تعكس التحالف الفتاك بين سياسة رفع القيود في قطاع المال وقطاع الطاقة ففي تقاريرها إلى لجنة السندات المالية وصفت إنرون نشاطها على أنها بنك استثمار والشهادات المتلاحقة أمام الكونجرس أكدت أنها كانت شركة متاجرة في العقود الآجلة أكثر منها شركة طاقة فما كانت إنرون تقوم به هو تطبيق أساليب التجارة في العقود الآجلة على قطاع الطاقة، وهي أنواع المضاربات نفسها التي كانت تقوم بها المؤسسات المالية في قطاع المال الذي رفعت عنه قيود تنظيم الأسعار في نشاطاتها المالية الخارجة عن الموازنة العامة عادة تكون عقود آجلة لا تدرج في حسابات الموازنة العامة للشركة كانت إنرون تتبع طريقة نشأت في قطاع المصارف الدولي» حتى الماضي القريب كان التقرير الفصلي عن القطاع المصرفي الصادر من شركة تأمين الايداعات الفيدرالية يحتوي على سطر يتضمن العقود الآجلة خارج الموازنة العامة وقد أزالت شركة تأمين الإيداعات الفيدرالية الجزء المعنون خارج حسابات الموازنة العامة لكن بقيت هناك عقود آجلة بقيمة 51 تريليون دولار تسندها 6 تريليونات دولار من الأصول و 586 مليار دولار من الأسهم هذا يشمل كل قطاع المصارف الأمريكي. هذا يعني أن خسارة بمقدار 1.1% من مجمل محفظة العقود الآجلة سيكون كافيا لمحو كل رأسمال الأسهم للنظام المصرفي الأمريكي. إن أكبر مثال مثير للدهشة هو المضاربات بالعقود الآجلة التي يقوم بها بنك جي بي مورجان تشايس أند كومباني حيث تصل قيمتها إلى 24 ترليون دولار وهو نصف قيمة العقود الآجلة في كل بنوك أمريكا مجتمعة يقابل ذلك 799 مليار دولار من الأصول و 42 مليار دولار من الأسهم هذا يعني أن خسارة 2.0% من محفظتها للعقود الآجلة سيقضي على قاعدتها من الأسهم. فهذه ليست بنوك وإنرون ليست شركة طاقة على هذا الأساس يمكن القول أن انهيار إنرون ليس هو ما يشل الأسواق، بل أن انهيار أسواق المال هو الذي عجل بنهاية شركة إنرون فعملية انهيار الاقتصاد العالمي وانكماش قيم الأصول وانخفاض النشاطات الإنتاجية خلقت وضعا لم يعد قادرا على إدامة عملية النهب التي تقوم بها شركة إنرون وإذا كانت مؤسسات وول ستريت قد قررت ترك شركة إنرون لتواجه مصيرها المحتوم فذلك لا يعني سوى إزالة قشرة واحدة من البصلة نفسها أي أن وول ستريت عجلت بموت إنرون لتنقذ نفسها فأمام تبخر الفقاعة المالية لا تملك الطفيليات الكبيرة إلا أن تأكل الأصغر منها لتبقى حية يوما آخر فإنرون التي كانت وحشا مفترسا بالأمس أصبحت غداء اليوم. فضيحة مونيكا لوينسكي وفضيحة إنرون كما هو مذكور أعلاه، ما كان صعود إنرون الأسطوري أن يتم إلا عن طريق وضع قوانين جديدة تجيز رفع القيود التي كانت تنظم تجارة الطاقة والمال في الولايات المتحدة وما كان ذلك ليتم بدون حملة الدعاية والتبرعات السياسية التي قامت بها وسائل الإعلام وليس إنرون وحدها بل معظم المصالح المالية والاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة ولا يوجد حزب أو مرشحون من كلا الحزبين إلا ونالهم حظ من تلك التبرعات الرشاوى حتى يتم تمرير هذه القوانين التي سمحت بعمليات النهب هذه على حساب المستهلك الأمريكي والاقتصاد العالمي. برغم أن علاقة بوش والحزب الجمهوري بهذه الفضيحة واضحة، إلا أن قيام جهة أمريكية أو حزب ما بالمزايدة الأخلاقية على حساب جهة أخرى أو شخص آخر لا يمكن اعتبارها إلا وسائل ضغط لتحقيق أهداف بعيدة كل البعد عن موضوع إنرون بحد ذاته وقد شاهدنا كيف كانت فضيحة مونيكا لوينسكي تستخدم ضد الرئيس كلينتون لجره إلى دعم إسرائيل وضرب العراق وتؤكد جهات كثيرة أن خطاب جورج بوش عن حالة الاتحاد الذي ذكر فيه «محور الشر» جاء كرد فعل عن الضغط الداخلي الناتج عن ربطه شخصيا بفضيحة إنرون وعملية هروب إلى الأمام بعيدا عن موضوع الاقتصاد المنهار. ويبدو أن بعض الجهات بعينها قد بدأت حملة منظمة لتكثيف هذه الجهود لدفع بوش مزيدا إلى الأمام باستخدام هذه الفضيحة ودفعه أكثر فأكثر نحو استمرار وتوسيع الحرب ضد الإرهاب. وقد ظهرت أولى بوادر هذه الجهود عندما برز تقرير في نيويورك تايمز مؤخرا يتهم حملة بوش وبالذات مساعده كارل روف بأنه سخر أموالا مدفوعة من قبل إنرون لتوظيف أحد الشخصيات الإعلامية لليمين المسيحي المتطرف وهو رالف ريد بمرتب شهري قدره 10 إلى 20 ألف دولار وقد جاء الرد على ذلك التقرير في صحيفة «واشنطن بوست» بقلم الكاتب اليميني روبرت نوفاك في 4 فبراير عندما اتهم نوفاك منافس بوش الجمهوري جون ماكين بالوقوف وراء ذلك التقرير واتهم نوفاك مساعدي ماكين في الحملة الانتخابية جون ويفر والمحامي تريفور بوتر باختلاق القصة وليس بخاف أن جون ماكين قد تحول إلى أكثر صقور الحرب ضراوة بعد 11 سبتمبر وأنه شكل تحالفا غير رسمي مع الديمقراطيين من أمثال السيناتور جو ليبرمان وقيامهم بجولة عالمية لحشد الدعم لحرب أمريكا ضد الإرهاب ومطالبتهما بتوسيع تلك الحرب، لذلك يعتبر ماكين شوكة في خاصرة بوش بالرغم من انهما من نفس الحزب. إذ أن ماكين قد يهدد كما بدأ يتضح بخلق حزب ثالث في الانتخابات القادمة مما يؤدي إلى تحويل كمية كبيرة من أصوات الناخبين الجمهوريين واليمينيين من كفة ميزان بوش بما سيفيد جو ليبرمان المرشح الديمقراطي ومرشح اللوبي الصهيوني كما يبدو. ليس المقصود هنا تبرير أفعال بوش بالطبع، بل توضيح أن دموع التماسيح التي يذرفها البعض في أمريكا من الحزبين حول الفساد والاشتراك في فضيحة إنرون وراءها غايات أخرى فالفضيحة هي فضيحة كل النظام الأمريكي بكافة توجهاته وضربة قوية للسياسات الاقتصادية التي حاولت الولايات المتحدة والمؤسسات المالية العالمية استنساخها وفرضها على بقية دول العالم. ـ كاتب عراقي مقيم في السويد

Email