ياسر عرفات.. الاسطورة في عيون الاسرائيليين (1)، تأليف: داني روبنشتاين، عرض ومناقشة: توفيق أبو بكر

ت + ت - الحجم الطبيعي

زار 45 دولة في شهر واحد، أسطورة عرفات انطلقت من شوارع تل أبيب العبوة التي لم تنفجر في قناة مشروع المياه القطري في منطقة سهل البطوف في الجليل كانت أول عملية يقوم بها تنظيم فتح في إطار الشروع «بالكفاح المسلح». وذلك صبيحة الثالث من يناير عام 1965، وكان الإعداد للعملية قد تم في الأول من يناير في العام نفسه، وهو التاريخ الذي تم اعتباره فيما بعد عيداً وطنياً باسم «يوم الفتح» و«انطلاقة فتح» ومن وجهة النظر العسكرية كانت العملية كغيرها من العمليات التي تقلق إسرائيل ولكنها غير قادرة على إلحاق الضرر بأمن إسرائيل. وحاولت بعض المجموعات من فتح القتال وفق حرب العصابات في حينه في الضفة الغربية وقطاع غزة وجنوب لبنان. وكان التأهيل العسكري لهذه المجموعات متواضعاً والمعدات التي بحوزتهم قديمة. إضافة إلى مخاطر سرية العمل في ظل السلطات العربية الحاكمة لهذه المناطق. لكن الأصداء السياسية والإعلامية لهذه العمليات كانت مكثفة بحيث هزت المنطقة وأوجدت واقعاً جديداً في الشرق الأوسط. كما أسست لبداية الكفاح المسلح لياسر عرفات ورفاقه في عام 1965. وتشير المعطيات المتعلقة بالعام نفسه إلى وقوع خمس وثلاثين حادثة تسلل داخل إسرائيل لزرع الألغام وتخريب المنشآت المدنية مثل أنابيب وبرك المياه. ومعظم هذه العمليات تم تنفيذها من الضفة الغربية والقليل منها من قطاع غزة ولبنان. عدا عن إحباط عشرات العمليات من قبل الأجهزة الأمنية العربية. الشهيد الأول وقصة الشهيد الأول لتنظيم فتح، وهو احمد موسى، ظلت منقوشة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وأثارت هذه العمليات اعتراض البعض وتأييد البعض الآخر خاصة أصحاب الاتجاهات القومية الذين رأوا فيها براعم ثورية في الصراع مع إسرائيل. لكن الإعلام العربي الرسمي الخاضع لرقابة الحكومة كان يتجاهلها تارة ويوجه الانتقادات إليها تارة أخرى. غير أنه لم يكن بالأمكان إخفاء هذه العمليات التي حظيت بالنشر الواسع من جانب وسائل الإعلام الإسرائيلية. ومع أن وسائل الإعلام السورية اصدرت وأذاعت بيانات منظمة العاصفة الجناح العسكري في فتح إلا أن البيانات الرئيسية صدرت من بيروت عاصمة الصحافة العربية الحرة في ذلك الوقت. أما الأمر الأهم من الإعلان فكان الجدل الذي تناولته وسائل الإعلام اللبنانية حول تأييد أو معارضة العمل العسكري الذي تنتهجه حركة فتح. ولقد تحققت لعرفات ورفاقه الغاية التي سعوا إليها من خلال العمل العسكري بتشكيل احتجاج فلسطيني عام واحداث غليان في صفوف الجماهير العربية، ومن خلال جهاز إعلامي متشعب وضخم تم إنجاز الهدف، وصدر البيان العسكري رقم «1» الذي أشار إلى انطلاق قوات هجومية وخوض معركة ضد الجنود الإسرائيليين. وتوالت البيانات التي تحدثت عن تدمير عشرات الدبابات وقتل المئات من جنود العدو. وحرصت قيادات فتح في تلك المرحلة على السرية، فلم يظهروا في المؤتمرات الصحافية وأمام وسائل الإعلام، بل قاموا بإصدار العديد من البيانات عن كفاحهم ونضالهم العسكري ضد إسرائيل. وقد قال أبو أياد فيما بعد «أردنا الإدهاش». من جهة أخرى، فإن ردود الفعل العربية إزاء عمليات فتح الأولى أمدت مفهوم عرفات السياسي القائل بـ «خيانة الأخوة العرب» فقد وصف المصريون نشطاء فتح بأنهم «أخوان مسلمون متزمتون في خدمة الإمبريالية الغربية»، وعملاء للمخابرات الأمريكية، في حين اعتبرهم السعوديون عملاء للشيوعية وتعامل معهم الأردنيون على أنهم ثوار خطرون، واستنكر فلسطينيون مقربون من التيار القومي العربي عملياتهم واصفين إياهم بالمغامرين الذين يفتقرون إلى المسئولية، ووصفهم احمد الشقيري زعيم منظمة التحرير آنذاك بأنهم أعداء لحركة التحرير الفلسطيني. وعلى الرغم من ازدياد حدة الانتقادات الموجهة ضد عمليات فتح الأولى إلا أنها رفعت من شعبيتها في صفوف الجماهير الفلسطينية لا سيما داخل مخيمات اللاجئين، كما أنها أرغمت معارضيها فيما بعد على تغيير أفكارهم. وشهدت الساحة العربية نشوء تنظيمات عسكرية مماثلة فقد أنشأ الشقيري جيش التحرير الفلسطيني كرد فعل على الاندفاع الجماهيري الذي حظيت به حركة فتح، كما بدأ جورج حبش والقوميون العرب بتنظيم وحدات عسكرية، وكذلك سوريا بقيادة حزب البعث ومصر بقيادة جمال عبد الناصر معبود الجماهير العربية. وكل هذه العوامل مجتمعة تسببت في اندلاع حرب يونيو عام 1967 التي انتهت بانتصار إسرائيل واحتلالها لشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وغزة فاصبحت إسرائيل بذلك مسيطرة على أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. انطلاق الاسطورة وفي الثالث والعشرين من يونيو 1967 عقدت قيادة فتح اجتماعاً في دمشق برئاسة ياسر عرفات حيث صدر قرار باستئناف الكفاح المسلح من خلال نقل القيادات إلى الأراضي المحتلة، وفي نهاية الصيف تسلل عرفات إلى الضفة الغربية وبقي فيها بضعة أسابيع، ومع أنه لم يكن معروفاً إلا أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية كان يعرفه ويحاول اعتقاله لكنه كان يتنقل من مكان إلى آخر بمساعدة الخلايا السرية التي تشكلت هناك، وفي رام الله ونابلس قضى معظم وقته وأقام شبكة من النشطاء، وفي هذه الأثناء تجلت شجاعته وقدرته على المناورة والتنكر واستخدام بطاقات مزورة «ولم تكن هويات سكان المناطق قد صدرت بعد من قبل الحاكم العسكري». وقد شكلت قصص إفلاته من الجيش الإسرائيلي وتجواله في شوارع تل أبيب وتسلله المتكرر بين الضفتين الشرقية والغربية إلى جزء مهم من أسطورة البطولة الفلسطينية عدا عن مساهمتها في رفع المعنويات العامة. وقد زار عرفات المنازل والمخابئ التي لجأ إليها في تلك الفترة بعد دخوله مناطق السلطة الفلسطينية في إطار «جولة حنين» حظيت باهتمام وسائل الإعلام الفلسطينية. بدأت عمليات فتح في المناطق وفق نظرية «الحرب الشعبية» التي تبناها قادة فتح في خريف عام 1967، وواكبتها حملات إعلامية مكثفة، وفي مستهل عام 1968 نجحت أجهزة الأمن الإسرائيلية في تفكيك الخلايا السرية لفتح مما دفعها باتجاه الأردن وفي بلدة «الكرامة» بالذات التي شهدت هجوماً واسع النطاق للجيش الإسرائيلي الذي تورط في القتال مع أفراد التنظيمات الفلسطينية والقوات المدرعة الأردنية التي شاركت فيما بعد وغنمت بعض الدبابات الإسرائيلية، وخسرت إسرائيل ثمانية وعشرين جندياً كما أن بعض الجثث ظلت في ساحة المعركة، وبعد انسحاب القوات الإسرائيلية بدأت احتفالات فلسطينية بالنصر وامتدت إلى ساحات العالم العربي. وظهر اسم ياسر عرفات علناً بعد أيام على معركة الكرامة بصدور بيان رسمي عن اللجنة المركزية لمنظمة فتح يخول ياسر عرفات باصدار البيانات باسم حركة فتح وأن يكون المتحدث الرسمي لها. وبالطبع كان الاسم معروفاً في أوساط المنظمة ومخابرات دول المنطقة لكن كشف النقاب عنه علناً وفي هذا الوقت بالذات كان ينطوي على أهمية كبرى. وفي ابريل 1968 بدأ ينمو لغز عرفات الزعيم الذي يكتنفه الغموض، ويظهر طوال الوقت بالزي العسكري والنظارة السوداء والكوفية والسلاح، وظهوره العلني بعد معركة الكرامة ارتبط في وعي وذاكرة الجمهور العربي بما وصفه عرفات نفسه بـ «الانتصار التاريخي للعرب على دولة إسرائيل». من جانب آخر فأن الظروف السياسية السائدة في المحيط العربي أسهمت في رسم صورة عرفات الزعيم البطل الذي حقق انتصاراً على إسرائيل عجزت عنه الجيوش النظامية العربية التي تلقت ضربة قاصمة في حرب يونيو على الرغم من تعدادها وعدتها. ستالينجراد الثانية وكانت البيانات الفلسطينية تتحدث عن الانتصار الذي تحقق في الكرامة على أنه مواجهة متوازنة للانتصار الإسرائيلي الذي تحقق قبل أقل من عام على الجيوش العربية، حتى أن عرفات أطلق عليها «ستالينجراد الثانية» فتحولت المعركة إلى ما يشبه يوم اجتياح قوات الحلفاء في منطقة النورماندي أثناء الحرب العالمية الثانية، والأبطال هم الفلسطينيون البؤساء الذين تخلى عنهم العالم العربي وقلب لهم ظهر المجن. لقد كانت الجماهير العربية بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص بحاجة إلى بصيص من الأمل بعد هزيمة يونيو 1967 وبحاجة إلى شخص يبعث الأمل بالتغيير. وكان ذلك الشخص ياسر عرفات الذي بدأ طريقه السياسي كزعيم للجماهير. وهكذا بدأ ألوف من الشباب الفلسطينيين في التدفق على قيادات ومعسكرات فتح في الأردن وفي بعض الدول العربية الأخرى. ولم يشكل مقتل أكثر من مئة من مقاتلي حرب العصابات في المعركة عائقاً أمام نشوء أسطورة الكرامة، كما صدرت عن فتح بيانات رسمية وتقارير قبل معركة الكرامة تتسم بالمبالغة والتهويل في تصوير الإنجازات الفلسطينية، وكان ذلك يدخل في إطار إيجاد كيان ذاتي فلسطيني جديد يتحمل مسئوليته ومصيره ويرسم ملامح الاستقلال والبطولة الفلسطينية مقابل الأنظمة العربية التي تخلت عنهم وخسرت الحرب. وتصاعدت وتائر هذا التوجه في أعقاب معركة الكرامة ووصلت إلى معدلات لا نظير لها، كما انخرطت وسائل الإعلام العربية في حملات الانتصار الفلسطينية معتبرة أياها تعويضاً عن الهزيمة العربية التي لا تنسى، مثلما حدث في مارس 1968 حينما أصيب وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان خلال بعض الحفريات الأثرية في احد تلال المنطقة الصناعية بمدينة حولون فاصدرت حركة فتح بياناً زعمت فيه أنها هي التي أصابته. وبعد ذلك اعلنت مسئوليتها عن مقتل ليفي أشكول رئيس الحكومة في الوقت الذي كانت وفاته طبيعية. بل أصدروا بياناً تحدثوا فيه عن تفجير مرآب سيارة اسحق رابين الذي انهى مهام عمله كرئيس لهيئة الأركان العامة. مع أنه لم يكن لرابين مرآب على الإطلاق. وفي حالات كثيرة من حوادث الحرائق والكوراث الأخرى كانت فتح تسارع إلى الإعلان عن أن لها ضلعاً في الأمر. حتى ولو كان حادث طرق مثل حادث صيف 1968 الذي شهد مقتل خمسة ضباط احتياط بالقرب من تل أبيب وأعلن عرفات مسئولية فتح عن ذلك ومع أن الصحافيين قالوا له بأن البيانات تؤكد أن الأمر مجرد حادث طرق أجاب ساخراً بأنه « من المهم أيضاً أن تزداد حوادث الطرق في إسرائيل هذه الأيام». وهذا النجاح على صعيد العلاقات العامة على الرغم مما يشوبه من مبالغة وتهويل أدى بالنتيجة إلى أعتراف عربي ودولي بوجود وقوة الوعي القومي الفلسطيني. وسرعان ما نشأت تنظيمات أخرى على مستوى فتح منها ما هو كبير نسبياً مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش الذي واصل نهج القوميين العرب، أو الجبهة الديمقراطية التي أنشقت عنها بقيادة نايف حواتمة. وهناك منظمات كانت تتلقى الدعم من دول عربية كالصاعقة المدعومة من سوريا. إضافة إلى عشرات المنظمات الصغيرة التي سعت إلى تقليد نجاحات عرفات ورفاقه. وقد دخلت هذه المنظمات عملية التنافس فيما بينها مما أوجد حالة من المبالغات والاختلافات والإرباك في أحيان كثيرة. أجهزة الإعلام العربية شاركت هي الأخرى في الحملات الدعائية «ولكل دولة عربية توجهاتها ومطالبها» لكن الجماهير العربية كانت تنظر بتقدير إلى بيانات عرفات ورفاقه حتى ولو كانت وهمية. واعتبرت كل من يتجرأ على التشكيك بها كمن يتعاون مع إسرائيل. ويمكن القول إن فتح استجابت لرغبات الجماهير في الإثارة والبطولة، وظهرت انتقادات هنا وهناك تتعلق بمصداقية بيانات فتح، لكن الربح الناجم عن المبالغة كان أكبر من الخسارة فالاساطير التي تم تجنيدها لاجل النضال الفلسطيني جعلت جماهير المتطوعين تتدفق على المعسكرات، كما ان المكانة السياسية للحركة الفلسطينية الجديدة ناطحت السحاب. وفي أقل من عام على معركة الكرامة سيطر عرفات وفتح على منظمة التحرير الفلسطينية وبدأت أموال التبرعات والدعم تصل إلى صناديق المنظمة مما مكن الحركة من شراء الأسلحة الكثيرة بالإضافة إلى موضوع لا يقل أهمية عن ذلك وهو طرح الموضوع الفلسطيني على جدول أعمال المجتمع الدولي الذي أخذ يتحدث فجأة عن جمهور على طريق التنظيم إلى درجة الكيان السياسي وليس عن مجرد لاجئين بؤساء يحتاجون دوماً إلى الدعم الانساني، ونجح عرفات في تشكيل رمز هذه العملية. ويشار إلى أن البيانات التي تفتقد إلى المصداقية والمقولات التهويلية لم تلحق الضرر بعرفات. وواكب عرفات الحرب التي جرت في الأردن بين المنظمات الفلسطينية والجيش الأردني بحملة تحريض شديدة وعنيفة ضد النظام الأردني. كما ان معظم البيانات التي أصدرها خلال فترة الإقامة الطويلة في لبنان كانت من النوع ذاته، حتى انه لم يعترف بفشله في حرب لبنان عام 1982 بعد اجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت وخروج التنظيمات الفلسطينية منها بعد معارك دامية استمرت حوالي ثلاثة أشهر، فقد قال أمام الصحافيين «أثناء وقوفي أمام مئة وتسعة وستين ألف جندي إسرائيلي في لبنان تذكرت ما كان قد قاله لي الرئيس جمال عبد الناصر مرة وهو يشكك بقوتنا.» أتمنى لو أن القوات الفلسطينية تستطيع إشغال لواء إسرائيلي واحد في الحرب. والذي حدث في لبنان أننا صمدنا ثمانية وثمانين يوماً في وجه ثمانية ألوية إسرائيلية وهذا يعني أننا قاتلنا الجيش الإسرائيلي كله تقريباً، إذ لم يبق سوى ثلاثة ألوية منتشرة على طول الحدود مع الدول العربية ويتوجب عليهم الاحتفاظ بفرقة واحدة للاحتياط، أي أن فرقتين إسرائيليتين فقط كانتا خلال تلك الفترة على طول الجبهة العربية مع مصر وسوريا والأردن، وكان بإمكان أية قوة عربية أن تتحرك بكل بساطة على طريق القدس التي كانت مفتوحة، وماذا حدث؟ لا شيء وماذا بإمكان الشخص أن يقول حيال ذلك»؟ مبالغات عرفات هذه مجموعة معطيات غير مدروسة كما هو الحال مع التحليلات والتفسيرات التي قدمها عبر ألوف المقابلات التي أجريت معه منذ توليه مسئولية منظمة التحرير. من جانب آخر فإن عشرات الخبراء أشاروا إلى أن الانتفاضة الشعبية في المناطق التي اندلعت في نهاية عام 1987 كانت عفوية، ومن دون تنظيم أو توجيه من قيادة المنظمة في تونس، وعندما قلت ذلك لعرفات أجاب مستغرباً: «الانتفاضة اندلعت بدون قيادة المنظمة؟! وأي إعلام وصور تلك التي يرفعونها في غزة ونابلس؟ هل هي صورك؟». كما أن نفيه لدعمه للرئيس العراقي أبان حرب الخليج يرافقه تفسير مشابه إذ يقول «لم أدعم الرئيس العراقي وكل ما اردته هو تجنب هذه الحرب الفظيعة التي كلفت العالم عشرات مليارات الدولارات، إذ كان بالامكان إطعام القارة الأفريقية كلها بهذه الأموال وتغطية معظم ديون العالم الثالث». لقد تحدث عرفات باسلوب المبالغة أيضاً عندما وصل في صيف 1994 لإنشاء الحكم الفلسطيني في المناطق، حيث أعلن عن إنشاء ميناء ومطارات ومشروعات إسكانية وصناعية. وعلى الرغم من أن أقوال عرفات تنطوي دائماً على معطيات مشوهة وتفسيرات محرفة، ولكن دراسة الأمور بعمق تظهر أنها تتضمن شيئاً من المصداقية الراسخة في الواقع والتكوين الخاص بالجمهور الفلسطيني. صحيح أن الفلسطينيين واجهوا الجيش الإسرائيلي وحدهم في حرب لبنان عام 1982 لكن المعطيات التي يوردها حول الجيش الإسرائيلي ليست صحيحة. ووقوف الجيوش العربية مكتوفة الأيدي صحيح أيضاً والانتفاضة اندلعت بشكل عفوي لكنها استندت إلى أجهزة ومؤسسات شعبية أقامتها منظمة التحرير في المناطق منذ سنين. وعلى الرغم من وقوفه إلى جانب الرئيس العراقي إلا أن الأسباب التي جعلته يعارض حرب الخليج من المستحيل رفضها رفضاً قاطعاً. فالجهود والموارد الهائلة التي خصصتها الولايات المتحدة ودول التحالف لم تكن متناسبة مع مخصصات مناطق اخرى في العالم تعاني من الأجحاف والمعاناة. وبعد عملية السلام واصل عرفات الإدلاء بتصريحات تطالب بالجهاد ضد إسرائيل كما حدث في مايو 1994 في مسجد بمدينة جوهانسبرج. والكتاب والصحافيون الذين كتبوا عنه وتابعوه طيلة هذه السنوات توقفوا كثيراً عند التناقضات، وكتب العالم النفساني الأمريكي هربرت كيلمان يقول بأنه من الغريب الاكتشاف بأن معظم المتناقضات في اقواله وحتى المبالغات تبدو حقيقية. وتجدر الإشارة إلى أن أقوالاً كثيرة نسبت إليه من دون أن يقولها كحادثة الاجتماع المغلق مع السفراء العرب في ستوكهولم في يناير 1996 التي نسبت إليه قوله بأن معظم يهود إسرائيل سوف يهاجرون منها ويستولي عليها الفلسطينيون. وقد استغل اليمين هذا الخطاب في إسرائيل ولدى يهود الولايات المتحدة على أساس أنه لا يرغب بالسلام ويعكف على حياكة المؤامرات. ولكن مبالغات عرفات في الحقيقة تستند إلى أنه يريد تكريس قصة حياة الشعب الفلسطيني غير المسبوقة، فهذا الشعب المظلوم الذي سلبت أرضه وشرد منها وهو في الوقت نفسه يعمل ويشق طريقه بين شعوب العالم ويقاتل من أجل تحقيق أهدافه، وهو الزعيم الذي يمثله لأن المشكلة حقيقية والقضية عادلة. واستمر عرفات في هذا المجال منذ قيام السلطة الفلسطينية وحتى اليوم. وتصريحاته تثير الإسرائيليين وترضي الفلسطينيين فهي تخدم الهدف الوطني الفلسطيني كما أنها شكلت الخطوط الهيكلية البيانية للنضال. وما قاله على سبيل المثال إزاء مرتكبي حادث التفجير في بيت ليد «من أن الفاعلين أرتكبوا فعلتهم بتعليمات من المخابرات الإسرائيلية لأفشال عملية السلام، على غرار التنظيم السري اليميني الفرنسي أو أي أس في الجزائر» والهدف من هذه الأقوال هو تأكيد حقيقة أن نشاطات حماس تخدم مصلحة اليمين في إسرائيل، والذي يستغل هذه الحوادث لحشد الدعم الشعبي ومنع الانسحابات الإسرائيلية من الضفة الغربية، كما أن تبني شخصيات في مقولاته، مثل المسيح وسبارتاكوس «اللذين كانا فلسطينيين على حد قوله» وذلك إشارة للتواصل التاريخي للمعاناة في الأراضي المقدسة والانتفاضة البطولية المناهضة للقمع والاضطهاد. وعلى الرغم من كل ما يبدو في شخصية عرفات وسلوكه من مبالغات أو عدم مصداقية» بل تروتسكيه أحياناً «إلا أنه تحول إلى مصدر الهام لشعبه، فهو الزعيم الذي حول الفلسطينيين من عنصر تاريخي إلى جهة تشارك في صنع هذا التاريخ- كما وصفه البروفسيور يهو شفاط هركابي. نشاط عرفات السياسي اكتنفه الغموض والسفر المتواصل، وحمل الكثير من عناصر الإثارة، ولا يوجد شك على أنه في عصرنا الحديث لا يوجد زعيم سياسي أكثر منه سفراً، حتى الأشخاص الذين تفرض عليهم طبيعة أعمالهم كثرة التنقل لم يقطعوا المسافات الهائلة التي قطعها عرفات طيلة فترة نشاطه السياسي. وفي بداية حياته العملية في الكويت أكثر من السفر إلى الأردن وسوريا ولبنان ومصر، وسافر بالبر كثيراً أيضاً وكان رفاقه يخشون دوماً من سرعته في قيادة السيارة، وقد نجا مرة باعجوبة من حادث خطير على الطريق الصحراوي الطويل بين بغداد وعمان. ولكن بعد انتخابه رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية كانت سفراته تتم جواً وبكثافة مدهشة إلى درجة أن بعض المقربين منه قالوا بأنه لعدة أشهر أمضى في الجو أكثر مما أمضى على الأرض. وكتبت عنه رشيدة مهران «انه ليس من الصنف العادي للزعماء القادرين على العمل فقط داخل المكاتب محاطين بالمساعدين والحراس الذين يؤدون لهم التحية، وإنما الزعيم الذي ينتقل من مكان إلى آخر ويتواجد في كل مكان». واحد مساعديه أكرم هنيه الذي تم أبعاده من الضفة الغربية عام 1986 ورافقه ابتداء من عام 1988 قال إنهما زارا خمساً وأربعين دولة خلال شهر واحد، بمعدل دولة ونصف في اليوم الواحد. وإلى الدرجة التي لم يكن هنيه معها يدرك المكان المتواجد فيه وتختلط عليه أسماء المدن التي زارها والأشخاص الذين التقى بهم. وينبغي القول أيضاً أن هذه الرحلات الكثيرة لا تدخل في نطاق السياحة ولا العمل ولا الاستكشاف والمغامرة، وإنما الهدف منها سياسي واضح. ويؤكد المطلعون على الأمور بأن تلك الرحلات لم تتضمن زيارات حضارية أو تاريخية تماماً كما أنها لم تكن للنزهة أو المتعة في شيء، وهي باستثناء الطقوس الرسمية ليس فيها إلا القليل القليل من حفلات الكوكتيل أو المآدب الرسمية، فالوقت كله مكرس للعمل والمحادثات السياسية وكان خلال ساعات الطيران يواصل اعماله المعتادة من المكالمات الهاتفية وقراءة التقارير بواسطة معدات فنية وضعها اليابانيون تحت تصرفه، وكان بذلك يعمل كما لو كان داخل مكتبه. وكان عرفات بحاجة إلى هذه الرحلات غير المتوقفة لأغراض العمل والنشاط السياسي كما كان يحرص على عقد اللقاءات مع الفلسطينيين في أي مكان يذهب إليه ويستثمر هذه اللقاءات في تكريس قوته وشرح توجهاته وسماع آراء الآخرين، وهو في الوقت ذاته ضيف لطيف ومستضيف ودود، فهو يقوم بواجبات الضيافة بلطف ومودة، ويفاجئ ضيوفه بسلوكه وبحجم المديح أو الغضب ـ حسب الظرف القائم.

Email