مع سلبيات التسوية وتهاويها ، الشرق الأوسط على مفترق الطرق بعد سقوط اللاءات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحديات التي تثيرها علاقات القوى في منطقة الشرق الأوسط امام السياسة الخارجية المصرية كانت موضع بحث ودراسة تقدم بها الدكتور مصطفى كامل السيد من جامعة القاهرة الى المؤتمر السنوى الأول للمجلس المصرى ، للشئون الخارجية تحت عنوان (الشرق الأوسط فى مفترق طرق البعد الاقتصادى). يبدأ الباحث بالنقطة أو التساؤل الثانى الخاص بحجم المتشككين فيقول: انه رغم سقوط لاءات الموقف العربى تجاه اسرائيل وهى اللاءات التى أسفر عنها مؤتمر الخرطوم, لا صلح ولا اعتراف ولا علاقات مع اسرائيل بعد نكسة عام ,1967 رغم سقوط هذه اللاءات بتخلى أطراف عربية أساسية هى مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية والأردن عنها, وتخلى أطراف عربية أخرى عنها بدرجة أقل, الا أن روح هذا الموقف مازالت حية فى رفض قوى سياسية عديدة فى الوطن العربى, قومية وإسلامية وماركسية أن تكون هناك علاقات اقتصادية مع اسرائيل قبل جلاء اسرائيل عن كل الاراضى العربية المحتلة وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس علاوة على اراضى الضفة الغربية وقطاع غزة. يرجع الباحث التشكيك فى امكانية وجود اثار ايجابية للسلام الى اسباب اربعة: أولها: طبيعة التسوية السلمية المحتملة ذاتها, فالأثار الاقتصادية الايجابية للسلام تفترض قبول أطرافه باعتباره يحقق جانبا مهما من مطالبهم ويجعلهم يقبلون به عن اقتناع. ولكن علاقات القوى الاقليمية والدولية تجعل من المرجح ان تنطوى التسوية السلمية التى قد تتم فى ظل هذه الأوضاع على تنازلات هامة, وربما جوهرية سوف تقلل كثيرا من قبول الرأى العام العربى له, ويوضح الباحث ان الأطراف العربية لو قبلت بتنازلات فى الملفات الخاصة بالمتسوطنات الاسرائيلية التى يقيم فيها قرابة (170 ألف) اسرائيلى, والقدس التى تصر اسرائيل على كونها جزءا من القدس الموحدة, والحدود الفلسطينية التى لن تكون متلاصقة ومتجاورة مع دول عربية, والاصرار الاسرائيلى على السيادة على الحافة الشمالية الشرقية لبحيرة طبرية, وعودة اللاجئين فسوف يكون صعبا قبولها لدى الرأى العام العربى والأخطر من ذلك أن هذه التسوية لن تمس تفوق اسرائيل العسكرى الكاسح. وثانيها: محدودية التسوية وانطباقها فقط على ما يسمى بدول الطوق ولكن لا الشرق الأوسط ولا العالم العربى يقتصر فقط على دول الطوق, وعليه لن يكون هناك سلام شامل وأوضاع العراق على ما هي عليه, كما ان اسرائيل لا تقبل بنمو القوى العسكرية لايران. ثالثها: ان التعاون الاقتصادى اذا تم فلن تتوزع منافعه بالتكافؤ بين أطرافه ولن تحصل الدول العربية الا على الفتات, بل أن مثل هذا التعاون من شأنه ان يكرس التخلف النسبى للدول العربية فى مواجهة اسرائيل وتركيا, وقد يفترض سيطرة اسرائيل وأصدقاؤها على مرافق اقتصادية مهمة فى الدول العربية, وذلك لأن عدم التكافؤ فى مستويات النمو الاقتصادى بين الدول العربية والدول الشرق أوسطية هو السائد, فالعالم العربى يضم دولا هى الأقصر والأقل نموا فى العالم, كما يضم دولا متوسطة النمو ودول ذات الدخل الفردى المرتفع, ولكن أيا من هذه الدول بالاضافة الى ايران لم يصل الى مكانة الدول الصناعية, وما وصلت اليه وتفوقت فيه اسرائيل وتركيا حتى مع فوارق هامة بينها. ورابعها: ان الحديث عن الآثار الاقتصادية الايجابية للسلام والتشكيك فيها يفترض دائما مقارنة خاطئة بين أوضاع الشرق الأوسط والصراع العربى الاسرائيلى من ناحية وأوضاع أوروبا وخصوصا فرنسا وألمانيا من ناحية أخرى فالفوارق هنا تكمن فى أن الصراع الفرنسى الألمانى كان صراعا على الزعامة فى أوروبا ولكن لم يكن فيه رفض مبدئى لشرعية وجود دولة من دولتى الصراع للأخرى, ولكن الصراع العربى الاسرائيلي كان أقرب الى صراع على الوجود, ولم يكن الطرف العربى يرى مخرجا منه الا بانتهاء وجود اسرائيل, ومع انه لا توجد دولة عربية واحدة الآن تنظر الى هذا الأمر على هذا النحو, الا أن وجود اسرائيل سيظل بالنسبة للرأى العام العربى طال الزمن أو قصر, اغتصابا لأرض عربية فلسطينية, ولن يقدر لمثل هذه الرؤية أن تنمحى من الذاكرة التاريخية العربية, وأحد فوارق الصراع أيضا ان فرنسا والمانيا دول متقاربة من حيث مستويات نموها الاقتصادى, ومن ثم كانت ترى فرصا متكافئة للكسب من آثار السلام بينهما وآخر هذه الفوارق أن الولايات المتحدة تحملت جانبا مهما من نفقات الدفاع عن أوروبا, وكان من السهل على دول أوروبا أن توجه جانبا مهما من مواردها لدفع معدلات نموها الاقتصادى وتحسين مستويات الرفاهية لمواطنيها, أما فى الشرق الأوسط والعالم العربى فتبدو الولايات المتحدة وكأنها حريصة على استمرار التوتر فى الاقليم باختلاق عداءات وهمية لاقناع بعض دول المنطقة ذات الارصدة المالية الكبيرة, بالاستمرار فى شراء أنظمة دفاعية أمريكية باهظة الثمن لا تقدر على استخدامها, ولا يحتمل ان يثور موقف يدعوها الى استخدامها. العلاقات الاقتصادية وحول مستقبل علاقات القوى الاقتصادية فى الشرق الأوسط يحدد الباحث هنا ان تعريف الشرق الأوسط يقتصر على الدول العربية ودول الجوار الاسيوية وهى تحديدا اسرائيل وتركيا وايران, ولا يمتد ليشمل دول آسيا الوسطى ولا باكستان وأفغانستان والهند. وتتوقف علاقات القوة الاقتصادية فى المستقبل بين دول الاقليم وفقا لهذا التعريف على عدد من المتغيرات منها حجم الناتج المحلى الاجمالى وتكوينه فى كل منها, ومعدلات النمو المتوقعة فيها خلال السنوات العشر المقبلة, وأثر سياسات الاصلاح الاقتصادى الجارية فيها, وأخيرا مشروعات التعاون الاقليمى المطروحة عليها فى الوقت الحاضر, والتى ينتظر أن تجد طريقها الى التنفيذ اذا ما تم التوصل الى تسوية سياسية شاملة للصراع العربى الاسرائيلى, وكذلك توزيع المكاسب والمخاطر الناجمة عن تنفيذ هذه المشروعات. بالارقام ويورد الباحث فيما يتعلق بحجم الناتج القومى لدول الاقليم, انه بلغ 5.726 مليار دولار فى سنة 1997 لكل دول الاقليم, وان مساهمة كل الدول العربية فى حجم هذا الناتج أقل من النصف (6.44%) بينما أكثر من نصف الناتج من ثلاث دول شرق أوسطية غير عربية وهى تركيا (4.27%) وايران (95.14%) واسرائيل بحجم سكان أقل كثيرا (9.12%) أما مصر فكانت (9.9%), ونظرا للتفاوت فى عدد السكان فيما بين هذه الدول يتباين نصيب الفرد من هذا الناتج بدرجة كبيرة, وإذا ما وضعت الدول العربية كلها فى مجموعة واحدة فإن اسرائيل تقفز الى المقدمة بمعدل نصيب الفرد من هذا الناتج يتجاوز 16 ألف دولار يليها تركيا ثم ايران أما الدول العربية جميعها فيقل نصيب الفرد فيها عن نصيب الفرد فى إيران, بينما يقل فى مصر عن متوسط نصيبه فى الدول العربية, وبالطبع المقارنة أيضا تعكس اختلافات هامة عن الناتج المحلى القومى فتكوين الصادرات يرتفع فى اسرائيل وتركيا بينما لا ترد أى من دول المنطقة فى فئة تكوين الصادرات فى الناتج المحلى القومى الأمر الذى يعكس تفاوتا فى البنية الاقتصادية ما بين اسرائيل وتركيا من ناحية ودول المنطقة من ناحية أخرى. يرى الباحث ان المتغير الثاني الذى يحدد مستقبل العلاقات بين القوى الاقتصادية فى الاقليم هو معدلات النمو التى حققتها فى الفترة الماضية والمتوقعة فى المستقبل ويقول ان دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد سجلت معدلات نمو متواضعة طوال العقدين الماضيين فارتفعت من 2% فى الثمانينيات إلى 3% فى التسعينيات, وسجلت اسرائيل معدلات نمو متسارعة تفوق متوسط الاقليم فارتفعت من 5.3 % فى الثمانينيات إلى 4.5% فى التسعينيات, وكذلك ارتفعت فى ايران ولكنها تباطأت فى تركيا ومصر. وعن أثر سياسات الاصلاح الاقتصادى قال الباحث: كل دول المنطقة تقريبا تشهد تطبيق سياسات للإصلاح الاقتصادى, ولكن نجاحها يعتمد على قدرة القطاع الخاص على توليد الاستثمارات المطلوبة لدفع التنمية فى ظل تجميد استثمارات القطاع العام وتصفيته تدريجيا, وكذلك تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الأقليم. وتتفاوت درجة الاعتماد على الموارد المحلية فى توفير الاستثمارات تفاوتا واسعا, فدول قليلة تعرف معدلات الادخار العالية, وتحتاج معظم دول الاقليم الى موارد خارجية ضخمة لمواصلة نموها الاقتصادى. التعاون يشير الباحث الى هذا المتغير باعتباره سيكون مسئولا عن تشكيل علاقات القوى الاقتصادية فى اقليم الشرق الأوسط مستقبلا, ويقول: ان أحد هذه المشروعات يجرى تنفيذه بالفعل فى الوقت الحاضر, وينتظر أن يتم الاسراع بتنفيذ البعض الآخر عند الوصول لتسوية سياسية شاملة للصراع العربى الاسرائيلى, والمشروع الذى يشير اليه الباحث هو مشروع دول الاتحاد الأوروبى مع دول شرق وجنوب البحر المتوسط والتى تضم كل الدول العربية الشاطئية بالاضافة الى الأردن وموريتانيا مع اسرائيل, وقد تنضم اليها ليبيا, ويقضى هذا المشروع وهو ما عرف باسم (اعلان برشلونة) باقامة منطقة تجارة حرة بين دول الاتحاد الأوروبى والدول العربية والشرق أوسطية المتوسطية بحلول سنة 2010. والمشروع الثانى للتعاون الاقليمى وهو المعروف بالمشروع الشرق أوسطى, ويحظى هذا المشروع بالتأييد القوى من جانب الولايات المتحدة الأمريكية, وبالاضافة الى هذين المشروعين طرحت أفكار كثيرة للتعاون الاقتصادى فيما بين دول الاقليم بتعريفه الواسع, وقد أظهرت اسرائيل وتركيا حماسا واسعا للمشروع الشرق أوسطى كما بدأ بالفعل تنفيذ اعلان برشلونة بانتظام اجتماعات متعددة لوزراء خارجية الدول الأعضاء وكبار المسئولين الحكوميين. ويلاحظ الباحث انه لا توجد حتى الآن مشروعات عربية أو اسلامية تحظى بالتأييد القوى أو بتوافر امكانية مماثلة لما يتوافر للمشروعين المطروحين من خارج المنطقة. صحيح أن هناك مجلس وحدة اقتصادية واتفاقية سوق عربية مشتركة مضى عليها قرابة أربعة عقود ولم يظهر لأى منهما أثر على أرض الواقع, كما دعت ايران للتعاون بين الدول الاسلامية وهو ما يمكن ان يجمعها مع كل الدول العربية, ولكن ليس هناك صدى للدعوة الايرانية, والسبب فى هذا ان هذه الدول تفتقر الى الارادة السياسية لترجمة ما تدعو اليه أى مشروعات عملية. حساب المكاسب والمخاطر فى حساب المخاطر والمكاسب يقول الباحث: ان تنفيذ مشروعات التكامل الاقليمية يقوم على ارضية من عدم التكافؤ الهائل بين اقتصاديات الدول الداخلة فى اقليم الشرق الأوسط من حيث مستوى النمو فى كل منها وما يعكسه الهيكل الاقتصادى فى الدول الصناعية غير العربية فى المنطقة, وانه انطلاقا من نظريات التجارة الدولية ففتح باب التجارة بين دول تتفاوت من حيث مستويات نموها الاقتصادى سوف يبقى على التفاوت الهيكلى القائم فيما بينها, والواقع فى رأى الباحث ان اسرائيل وتركيا سوف تكونان المستفيد الأكبر من نمو علاقات التجارة والتعاون الاقتصادى وتدفق المساعدات والاستثمارات الأجنبية على دول المنطقة فى اطار أى من مشروعى التعاون الاقليمى خاصة فى مرحلة ما يسمى بالاقتصاد الجديد القائم على تكثيف استخدام العلم فى العملية الاقتصادية ويتضح تفوق اسرائيل فى رأس المال البشرى بجملة من المؤشرات بينها ارتفاع نسبة العاملين بالبحوث والتطوير مقابل انخفاضها فى اجمالى الدول العربية, وارتفاع الانفاق على التعليم الى الناتج القومى فى اسرائيل بما يفوق ما ينفق فى كل الدول العربية, وارتفاع الانفاق على البحث والتطوير من اجمالى الناتج المحلى لاسرائيل بما يتجاوز كثيرا نسبته فى كل الدول العربية, كما أن عدد الدوريات العلمية يتجاوز فى اسرائيل أكثر من ضعف ما يصدر فى كل الدول العربية, وأخيرا بينما سجل الاسرئيليون 139 براءة اختراع فى أوروبا, ومثلها فى الولايات المتحدة لا توجد براءات اختراع باسماء عربية وذلك وفقا لبيانات التقرير الاقتصادى العربى الموحد لسنة 1999. التحديات يطرح الباحث وفق الأوضاع السابقة عددا من التحديات أمام السياسة الخارجية المصرية أهمها: أولا ان المصير الاقتصادى ومعه المصالح الاقتصادية فى المنطقة يجرى تشكيلهما وفق إرادة أطراف خارجة عن المنطقة هى فى الأساس الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الاوروبى وتأييد قوى من اسرائيل وتركيا دون ان يكون للدول العربية أى دور فعال فى تشكيل تطور الشرق الأوسط ودون أن تأخذ مصالحها فى الاعتبار. ثانيا: مشروعات التعاون الاقليمى هذه تهدد بتعميق التجزئة فى المنطقة, باستبعاد شعوب عربية واسلامية من المشاركة, وتقسيم المنطقة إلى دوائر نفوذ لقوى خارجة عنها فتحظى الولايات المتحدة بالنفوذ الأكبر فى الخليج والمشرق العربى ودول الاتحاد الأوروبى فى شمال أفريقيا. ثالثا: هذه المشروعات تنذر بالمزيد من تهميش الدول العربية فى اطار الاقتصاد الاقليمى والاقتصاد العالمى. رابعا: هناك حاجة ملحة بالفعل للتعاون الاقليمى ولكن وفقا لحاجاتها الاقليمية ذاتها وليس وفقا لارادة الدول الخارجة عن الاقليم وامكانيات النمو فى اقليم الشرق الأوسط بمعناه الواسع هائلة, ولكن اكتشاف هذه الامكانيات على النحو الصحيح يتوقف على النظر إليها دون إيلاء مركز متميز لواحدة فقط من دوله, ودون أن يكون لها بالضرورة دور محورى فى مشروعات التعاون فيه, على السياسة الخارجية أن تواجه هذه الجملة من التحديات.

Email