من الملف السياسي: كارثة يونيو كانت بداية لرحلة اغترابي في الوطن، يرويها: صبري الهمص

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت أحلامي في الوطن عريضة وانا ارى والدي وأقربائي يلتفون حول المذياع في حي امبابة العتيق وهم يستمعون لكلمات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وثورته وحماسه وهو يتحدى العالم الغربي المتكاتف ضده ويعلن تأميم القناة وبناء السد العالي, كنت اشعر انني امتلك العالم رغم ان احلامي كانت لاتزال صغيرة , وعندما التحقت بكلية التجارة دفعني الحماس والثورة لممارسة الأنشطة الطلابية وكأني اقود الشباب من حولي الى مستقبل متألق كالنجوم في السماء, ولكن حدث لمصر ما دمر كل احلامي في تلك المرحلة المبكرة بوقوع كارثة يونيو 67, وجدتني افقد فجأة طريقي ووضوح الرؤية, واختلطت بداخلي الاشياء, الخطأ والصواب.. الحلم والواقع.. الماضي والمستقبل.. الشعارات والحقيقة المريرة, ووجدتني اتحدث لكل من حولي بلغة تنزف مرارة, لغة تفهمها القليلون واستنكرها كثيرون, ففقدت طريقي في الوطن, وبدأت رحلة اغتراب بداخلي بعد ان انسدت قنوات الاتصال بيني وبين الاخرين, وشعرت وقتها ان تقاسم افكاري مع الاخرين اصبح امرا مستحيلا.. ولاحت امامي فكرة السفر, لم تكن هروبا بل محاولة للبحث عن الذات من جديد في مناخ لم تشوه ملامحه الهزيمة. لم اختار هولندا بالذات كما لم يكن في ذهني اي بلد اخر, كانت الفكرة الملحة هي السفر فقط وهذا كل شيء, وساقت لي المصادفة هولندا عبر اصدقاء لي التقيتهم مرة بعد غياب, فروى لي احدهم عن امستردام وزيارته لها, فكانت هي المحطة التي قصدتها, كان فراقي لأسرتي امرا لا يحتمل لاني اكبر اخوتي الثلاثة, لكن والداي كانا يشعران بما يتقاذفني من الام, فوافقا على مضض على ان اكمل دراستي الجامعية في هولندا, وقررت ان ادرس الطب والتحقت بالفعل بجامعة نايميخن بضعة اشهر, لكن اللغة الهولندية كانت لغة صعبة وغريبة لم استوعبها في حينه, وتألقت خلال دراستي بكلية الطب هوايتي الفنية في التمثيل المسرحي, فراقت لي فكرة الدراسة بمعهد الفنون المسرحية, وبالفعل سحبت اوراقي من كلية الطب وقدمتها بالمعهد الذي درست به اربعة سنوات متواصلة. الغريب اني استوعبت اللغة الهولندية من خلال دراستي الفنية كما لم استوعبها من قبل في دراسة الطب, وكان اول عمل مسرحي لي (ابن الانسان) واستمر عرضها في هولندا عاما كاملا, وانخرطت في اعمال المسرح التجريبي, لكن حنيني كان دائما للسينما. رفضت ان اكرر تجارب بعض الفنانين المصريين الذين يضطرون لاداء ادوار عالمية محددة لا يخرجون عن اطارها ويكررونها لكونهم عرب في سينما الافرنج, فعندما دخلت عالم السينما وجدت حصارا يفرض علي من الفنانيين الهولنديين والمنتجين والمخرجين لأؤدي دورا واحدا وهو الاجنبي القادم الى هولندا, ولم يكن غريبا انهم كانوا ينظرون الي كعربي قادم من بلد مهزوم وعليه ان يقبل اي شيء وكل شيء, ومن هذا المنطلق رفضت الدوران داخل دائرة واحدة يفرضونها علي. وكانت بداية التحول في اكتوبر 73, فقد غير النصر العربي نظرة الهولنديين الي بصورة كبيرة, واثر هذا على الادوار التي تعرض علي بعد ذلك, وقررت عندئذ ان اقود حملة اعلامية فنية في هولندا لاوضح لمن لا يعرف مصر اننا من ارض لها تاريخ ورصيد فني وثقافي محلي وعالمي, واني لست من بلاد تستخدم الجمل للتنقل في الصحاري, وحاولت ان ألغي الصور الشائعة التي تحتل عقولهم منذ هزيمة يونيو. وقرأت مسرحية توفيق الحكيم (رحلة الى الغد) وتعاونت مع زميل انجليزي لتكوين فرقة عالمية مسرحية اطلقت عليها فرقة (اللامعقول) , وكانت مسرحية (رحلة الى الغد) هي العمل الاول لفرقتنا وتدور حول شخصين يعيشان بمعزل عن العالم الخارجي حيث انهما مسجونان, وكانت هي الرمز لمحاولة خروج مصر من العزلة بعد ان حققت الانتصار العظيم في اكتوبر, واصريت ان اعرض هذا العمل في مصر نفسها وبالفعل سافرت بالفرقة واعضائها الهولنديين وزميلي الانجليزي, وعرضنا المسرحية على مسرح عبدالوهاب.. الطريف ان والدي اصر ان يرتدي الجلباب البلدي ليقف بجانبي على المسرح وانا احيى الجمهور المصري, لاني كنت امثل هولندا في مصر من خلال هذا المهرجان, وكأن ابي اراد ان يقول للجميع ان ولده الفنان وان كان يمثل هولندا في هذه المسرحية الا انه مصري وابن بلد. ـ والدي ارتدى الجلباب ووقف بجواري على خشبة المسرح ليؤكد بصمت انني لم اتحول لخواجة. ـ خرجت من طوق الحصار الذي حاول اهل الفن في هولندا فرضه علي من خلال تمثيل ادوار الاجانب.

Email