من الملف السياسي: حالة تيمور قد تمثل سابقة جديدة في النظام العالمي، القوات الدولية أمام اختبار صعب، بقلم عبدالله اسحاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو الأزمة في تيمور الشرقية وكأنها اخذت تتجه نحو التهدئة والانفراج, بعد ان اعلنت اندونيسيا قبولها بوجود قوة حفظ سلام دولية في الجزء الشرقي من الجزيرة, وما أعقب ذلك من ردود فعل اقل حدة وأكثر ايجابية من قبل الامم المتحدة والدول المهتمة, خاصة الولايات المتحدة الامريكية.ومما شجع على هذا المنحى المتفائل ان الجيش الاندونيسي ظهر بمظهر المؤيد لتواجد قوة دولية, او انه على الاقل غير معارض لهذا التواجد , حيث ان قائد الجيش وزير الدفاع هو أول من لمح رسميا الى امكانية القبول بهذه القوات. غير ان الواقع على الارض, والعقبات التي مازالت تقف امام تشكيل القوة الدولية وتحديد يد صلاحياتها, اضافة الى الابعاد الاقليمية والدولية للقضية التيمورية, كل ذلك يدل على ان هذه النظرة التفاؤلية تبدو مبالغا فيها الى حد كبير. هذا فضلا عن ردود الفعل ومواقف القوى ذات النفوذ داخل اندونيسيا نفسها, سواء في ذلك الاحزاب السياسية والفعاليات الشعبية او الموقف الفعلي لقادة الجيش والقوات المسلحة. تباينات الداخل لاتزال مواقف الاطراف والقوى الداخلية الاندونيسية غير واضحة بما يكفي تجاه القضية التيمورية. ففي حين جرت عدة تظاهرات في العاصمة جاكارتا وفي سربايا ثاني اكبر المدن الاندونيسية ضد وجود قوات اجنبية في تيمور الشرقية, حيث تم خلال التظاهرات احراق العلم الامريكي وعلم الامم المتحدة, فقد اعلنت رئيسة لجنة الدفاع في البرلمان الاندونيسي ايضا رفض هذه القوات. غير ان زعيمة المعارضة ميجاواتي الحاصلة على اكبر نسبة في الانتخابات النيابية التي اعلنت نتائجها الشهر الماضي, لم تعلن موقفا واضحا من الازمة, بل انها لم تظهر في الصورة بالشكل الذي كان متوقعا باعتبارها من أبرز الشخصيات السياسية في البلاد, ومن الصعب فهم غيابها عن الساحة في ظرف بالغ الاهمية والحساسية كهذا. وقد يكون مبرر ذلك ان ميجاواتي التي نحي والدها احمد سوكارنو عن الحكم ووضع تحت الاقامة الجبرية على يد الرئيس السابق سوهارتو, كما تعرضت هي نفسها للسجن في عهده, لا تريد ان تبدو في موقف المؤيد التي اتخذها سوهارتو عام 1975 بضم تيمور الشرقية. كما انها ـ في الوقت ذاته ـ لا تريد اظهار تأييد كامل وواضح لانفصال تيمور الشرقية واستقلالها الكامل عن اندونيسيا, ربما تجنبا لردة فعل شعبية مغايرة, او خوفا من ان يكون القبول بانفصال التيموريين سابقة تفتح الباب واسعا امام (انفصالات) اخرى قد يكون من الصعب ايقافها في المستقبل. يبقى موقف القوات المسلحة الاندونيسية الذي بدا في اول الامر انه معارض للانفصال, بل وللاستفتاء ذاته الذي كانت نتيجته التصويت بأغلبية ساحقة الى جانب الاستقلال الكامل بدلا من الحكم الذاتي الذي كانت تفضله اندونيسيا, وخاصة قادتها العسكريين, لدرجة انه سرت شائعات لبعض الوقت باحتمال حدوث انقلاب عسكري يتولى فيه الجيش السلطة في البلاد. غير انه مع تتابع فصول الازمة, بدأ الجيش يظهر مرونة اكبر تجاه الموقف, خاصة بعد ردود الفعل الدولية الغاضبة التي وصلت الى التهديد بمقاطعة اندونيسيا اقتصاديا وسياسيا, وربما فرض عقوبات دولية ضدها, بعد انتشار اعمال التقتيل والتدمير التي عمت الجزء الشرقي من تيمور من قبل المليشيا الموالية لجاكارتا, والتي قيل ان الجيش كان يقدم لها الدعم ويتغاضى عن ممارساتها البشعة. ومع ذلك فان معظم المراقبين يعتقدون ان الجيش مازال هو صاحب القول الفصل الذي يملك مفتاح الحسم, حتى مع وجود قوات دولية, مازالت امامها عقبات كبيرة وستواجه دون شك امتحانا عصيبا لمدى فعالياتها وقدرتها على استعادة الامن والاستقرار. جسامة التحديات رغم التوافق المبدئي على إرسال قوات دولية متعددة الجنسيات الى تيمور الشرقية, لحماية السكان والحفاظ على ما تبقى فيها بعد عمليات الحرق والنهب, لاتزال هذه القوات, بل مازال تشكيلها من الاساس يواجه مصاعب جمة وخلافات حادة حول تحديد الدول المشاركة ومدى مشاركة كل منها, وكذلك مدى الصلاحيات الممنوحة لهذه القوات داخل الاقليم في حال وصولها اليه. ففي الوقت الذي اعلن فيه وزير الخارجية الاندونيسي ان بلاده تتمنى رؤية هذه القوات في اقرب وقت في الاقليم, الا ان اندونيسيا مازالت تتحفظ على قيادة هذه القوات التي تطالب استراليا بتوليها, كما ان الاندونيسيين يفضلون ان تكون القوات المرتقبة من دول اسيوية فقط, وهو ما تعارضه الدول الاوروبية والولايات المتحدة, اضافة بالطبع الى استراليا ونيوزيلندا اللتان تعتبران انهما دولتان اسيويتان جغرافيا, وان كانتا من الناحية السياسية اقرب الى الموقف الغربي حتى من بعض الدول الغربية ذاتها. كما ان الموقف الامريكي المتردد من المشاركة في القوات المقترحة, يثير الكثير من الغموض والشك بشأن تشكيلة هذه القوات وفعاليتها مستقبلا, رغم الاعلان الامريكي بان 300 الى 400 جندي امريكي قد يكون ضمن القوات الدولية المنتظرة, ولكن (للمساعدة فقط) في الاعمال المدنية والانسانية دون المساهمة في اي نشاط ذي طابع عسكري. وكانت امريكا قد اعلنت على لسان رئيسها بيل كلينتون لان تتولى جاكارتا (تحديد جنسيات الافراد المشاركين في القوات) . وان كانت لا تمانع في ان يكون لاندونيسيا (حضور مواز) على حد تعبير كلينتون., في الوقت ذاته, تصر استراليا ليس فقط على المشاركة في هذه القوات وربما قيادتها, وانما على ان تتمتع بسلطات وصلاحيات اكبر من تلك التي تتمتع بها القوات الدولية في البوسنة, والتي ترى استراليا انها (مكبلة) , كما قال وزير خارجيتها الكسندر داونر قبيل توجهه الى نيويورك لمناقشة ارسال القوات الدولية الى تيمور. وحتى لو تم تجاوز هذه العقبات وتم ارسال القوة الدولية الى الاقليم, فانها ستجد امامها على الارض مهام كثيرة وتحديات صعبة.. فالبنى التحتية الضعيفة اصلا تعرضت للدمار, وعدد كبير من السكان اصبحوا مشردين, بعضهم في الشوارع واغلبهم فروا الى المناطق الجبلية الاكثر امنا او نزحوا الى الجزء الغربي من الجزيرة. ومازالت المليشيات الموالية لاندونيسيا والمناهضة للاستقلال, تمثل قوة محلية لا يستهان بها, حتى لو تمكنت القوات الدولية بمساعدة الجيش الاندونيسي من لجم هذه المليشيات وتحجيم دورها في المدى القريب. وهو ما يعني ان الخطر سيظل كامنا, اذا تم تجاوزه مؤقتا, وقابلا للانفجار في اي وقت, ومثال كوسوفو لايزال ماثلا للعيان. واذا كانت القوات المسلحة الاندونيسية جادة في التعاون مع القوات الدولية, وتم بتعاون الطرفين احتواء خطر المليشيات وغيرها من القوى المحلية الاخرى, فان حساسية المنطقة وانعكاسات الازمة على القوى الاقليمية والدولية القريبة, مثل الصين, لا يمكن التنبؤ بما ستؤول اليه في المستقبل. تساؤلات ملحة بغض النظر عن الجوانب الانسانية والامنية المباشرة للقضية التيمورية,فان الابعاد والانعكاسات السياسية والاستراتيجية لهذه القضية تثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام. فهناك دول عديدة معنية بأسلوب هذه المشكلة وطريقة تعامل القوى الدولية معها, وهناك قضايا مماثلة كثيرة مازالت تنتظر دورها, للحل او الانفجار. فاذا كانت روسيا قد عارضت التدخل الغربي في كوسوفو القريبة من حدودها, لاسباب تتعلق بامنها القومي ومصالحها الاستراتيجية, فهل ستقبل الصين بوضع مشابه في منطقة على هذا القرب من حدودها وفي محيطها الاستراتيجي؟ وهل يكون مآل الوضع في تيمور سابقة تضاف الى سوابق اخرى لتبرير التدخل (الدولي) الى جانب اي اقليم او لمصلحة اية طائفة دينية او عرقية تطالب بالانفصال عن الدولة الام؟ واذا كان هذا هو موقف القوى الدولية من بلد في حجم ومكانة اندونيسيا, بشريا واقتصاديا, وقبل في يوغسلافيا التي كانت تعتبر من (القوى الكبرى) على مستوى الدول النامية, فكيف سيكون الموقف في المستقبل ازاء دول اصغر حجما واقل اهمية, ولكنها في الوقت نفسه تضم طوائف او اقليات قد تجد في هذه السوابق ما يغريها للمطالبة بالانفصال والاستقلال؟! ربما يأتي الرد بان هذه المخاوف والتساؤلات لا تنطبق على وضع تيمور الشرقية, حيث انها لا تعتبر, من وجهة نظر القانون الدولي, جزءا من الدولة الاندونيسية, اذ لم يتم الاعتراف دوليا بضم اندونيسيا لهذا الاقليم قبل ربع قرن. ولاشك ان هذا التبرير صحيح من الناحية النظرية, غير ان الواقع العملي يؤكد انه لا مجال للاعتبارات (النظرية) , حين يكون منطق المصالح هو وحده الذي يسير السياسات الدولية ويتحكم فيها.

Email