الجذور التاريخية للصراع الهندي الباكستاني حول كشمير: بقلم- د. محمد فراج أبو النور

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمثل قضية كشمير احدى المشكلات المعقدة الموروثة من الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية وتتشابك فيها خيوط عديدة, دينية وعرقية واقتصادية واستراتيجية .. تضرب جذورها في الماضي,, وتلقي بظلالها على الحاضر وآفاق المستقبل, مما يحمل على الشك في امكانية التوصل الى حل مقبول للنزاع في المدى المنظور. مرة اخرى ينفجر الوضع في كشمير مهدداً باشعال حرب جديدة بين الهند وباكستان حول ذلك الاقليم الغني ذي الاهمية الاستراتيجية الكبيرة, والواقع ان الصراع بين البلدين حول كشمير لا يكاد يهدأ حتى يعود للاشتباك على مدى اكثر من خمسين عاماً, هي عمر الدولتين الكبيرتين في شبه القارة الهندية. وقد تسببت مشكلة كشمير في حربين كبيرتين بين الهند وباكستان, وقعت اولاهما عقب اعلان استقلال الدولتين عن بريطانيا عام 1947 واستمرت طوال العام التالي ووقعت الثانية عام 1965 كما دفع شعب الاقليم ثمناً فادحاً لمقاومته الاحتلال الهندي طوال تلك السنين. وترتكب القوات الهندية مذابح وفظائع تثير اشد الغضب لدى الرأي العام في الدول الاسلامية, والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الانسان. ومشكلة كشمير هي احدى المشكلات المعقدة الموروثة عن الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية وقد صارت هذه المشكلة عقدة تتجمع فيها وتتشابك خيوط عديدة دينية, وثقافية واستراتيجية, وسياسية, واقتصادية وعرقية, ومحلية واقليمية تضرب بجذورها في الماضي, وتلقي بظلالها على الحاضر وآفاق المستقبل, بصورة تحمل على الشك العميق في امكانية التوصل الى حل مقبول للنزاع في المدى المنظور. وتعود جذور المشكلة الى القرن الماضي حينما (اشترى) احد المهراجات الهندوس حق ادارة ولايتي جامو وكشمير من شركة الهند الشرقية البريطانية (عام 1846) مقابل مليون ونصف مليون دولار بأسعار ذلك الزمان, كما تشير نشرة (الحقائق) الصادرة عن (حركة تحرير كشمير) عام ,1991 وهي احدى الحركات الاسلامية العاملة في الاقليم, وتضم عدداً من المنظمات الاسلامية الاصغر. وكان طبيعياً ان تقابل مثل هذه (الصفقة) بالسخط والاحتجاج من جانب سكان الولايتين ذاتي الاغلبية المسلمة الكبيرة التي تقترب من اربعة اخماس السكان. الحرب الاولى وعند نهاية الاحتلال البريطاني عام 1947 وتقسيم شبه القارة الهندية الى دولتين (الهند ذات الاغلبية الهندوسية, وباكستان ذات الاغلبية المسلمة) طالب سكان جامو وكشمير (المسلمون بأغلبيتهم) بالانضمام الى باكستان وقامت ثورة شعبية دعمها مقاتلون من قبائل (الباتان) الباكستانية, ففر المهراجا (هاري سنج) الى الهند التي طالبته بتوقيع اتفاقية تقضي بضم (المملكة) اليها. وفي اليوم التالي مباشرة بدأت القوات الهندية في التدفق على الاقليم وكان من الطبيعي ان تتدخل باكستان واستمرت الحرب من اكتوبر عام 1947 حتى بداية عام 1949 وفي يناير 1949 صدر عن مجلس الامن الدولي, بناء على طلب الهند, قرار يطالب الطرفين بوقف اطلاق النار وتلا ذلك اتخاذ الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو لاجراء استفتاء بين سكان الاقليم يعطيهم بوضوح حق تقرير المصير لكن الهند راوغت طويلا في تنفيذ القرارين الدوليين, ثم اعلنت صراحة رفضها للتنفيذ وضمها للاقليم على نحو ما سنوضح. التقسيم.. امر واقع وهكذا اسفرت الحرب عن وقوع 63% من مساحة اقليم جامو وكشمير في يد الهند, بالاضافة الى اربعة اخماس سكانه, وتبلغ المساحة الاجمالية للاقليم نحو 223 الف كيلومتر مربع وكان عدد سكانه غداة الحرب الاولى نحو اربعة ملايين نسمة وبقيت 37% من مساحة الاقليم تحت سيطرة باكستان التي اطلقت على الجزء الواقع تحت سيطرتها اسم (ازاد كشمير) اي كشمير الحرة. وواجهت نيودلهي بالقمع الوحشي انتفاضات الكشميريين, الذين لم تحظ حركتهم بالاهتمام الواجب من جانب اغلب دول العالم الاسلامي في تلك المرحلة, حيث كانت الهند تقيم علاقات وثيقة مع اغلب تلك الدول في اطار حركة عدم الانحياز بينما كانت باكستان منخرطة في سياسة الاحلاف الغربية بزعامة الولايات المتحدة وبريطانيا. وفي ظل هذه الاوضاع الدولية المواتية تمكنت الهند, دون صعوبة خاصة, من تنفيذ سياستها في كشمير, واعلنت عام 1957 ضم الاقليم اليها تحت اسم (ولاية جامو وكشمير) التي منحتها نيودلهي قدرا محدودا من الحكم الذاتي, تعرض رغم محدوديته للالغاء لفترات طويلة, وتعطيل الحكومة والبرلمان المحلي, وحكم الولاية بصورة مباشرة من جانب الحكومة المركزية في دلهي, كما عملت الهند على توطين هندوس تجلبهم من مختلف ولاياتها الى الاقليم لتغيير تركيبته السكانية, واحكام قبضتها عليه ويقدر عددهم الآن باكثر من مليون نسمة. ونظرا للاهمية الاستراتيجية الكبيرة للاقليم فإن الصين عمدت عام 1959 الى غزو وضم جزء منه يحاذى حدودها في ستكيانج والتبت, وهو منطقة (لاداخ) الشمالية الشرقية من كشمير والتي تبلغ مساحتها نحو 38 ألف كم مربع. واسم هذه المنطقة بالصينية (اكساي شين) . وقد اضطرت الهند للرضوخ للامر الواقع, وتم الاتفاق على تحديد الخطوط الفاصلة في كشمير بين بكين ونيودلهي عام 1963, بعد ان كانت الاخيرة قد تعرضت لهزيمة قاسية في نزاع حدودي آخر مع جارها الكبير, تحول الى حرب خاسرة لم تملك الهند بعدها الا الاذعان للامر الواقع. الحرب دائما ادى استمرار الهند في احتلال كشمير ورفضها تنفيذ القرارات الدولية المتتالية بشأن الاقليم الى نشوب حرب ثانية بينها وبين باكستان عام 1965, انتهت بهزيمة الجيش الباكستاني للمرة الثانية. واستمرت الهند في تشجيع النزعات الانفصالية لدى زعماء الاقليم الشرقي من باكستان (بنجلاديش الحالية) مستفيدة من اخطاء الحكومة المركزية في التعامل مع ابناء القومية البنغالية وانتهى الامر بنشوب الحرب الثالثة بين البلدين في ديسمبر 1971, والتي انتهت بهزيمة مريرة لباكستان, وانفصال اقليمها الشرقي عنها تحت اسم (بنجلاديش) وكان من الطبيعي ان يؤدي هذا الى اضعاف شديد لباكستان, وهزيمة معنوية كبيرة للحركة الاستقلالية في جامو وكشمير, التي تتطلع دائما الى الشقيق الباكستاني الاكبر التماسا لدعمه. وتم في يوليو 1972 التوصل الى اتفاقية (شيملا) التي تنظم مبادىء العلاقة بين الجانبين وسبل تسوية الخلافات بينهما, وبين بنود الاتفاقية نص على ان: (يقرر البلدان تسوية الخلافات بينهما بالوسائل السلمية من خلال المفاوضات الثنائية او بأية وسائل سلمية اخرى يتفق عليها الجانبان. وتتخذ الهند من هذا البند ذريعة لرفض اية محاولة من جانب باكستان لعرض قضية كشمير على الامم المتحدة, او مشاركة اي طرف دولي آخر بالوساطة في محاولة حل القضية الامر الذي يعني جعل اي تحرك بشأن جامو وكشمير مرهونا بارادة نيودلهي وحدها.. والى الابد! صعود الاصولية رغم ان الديمقراطية الهندية معروفة عموما بطابعها العلماني, الا ان ديمقراطية الهند وعلمانيتها كلتيهما تنطويان على عديد من التناقضات, ويبدو هذا مفهوما في بلد متعدد القوميات والديانات واللغات, يتسم بالفقر (رغم نجاحاته الاقتصادية الهامة في الفترة الاخيرة) وبالتفاوت الاجتماعي الهائل, وتخلف البنية الاجتماعية حيث لايزال النظام الطائفي يملك بقايا قوية. ويؤدي كل ذلك الى سهولة توجيه شتى انواع السخط ضد ممثلي الطوائف والاديان الاخرى من جانب شتى انواع الغوغائيين والمتطرفين دينيا وقوميا. ولعلنا لاننسى ان زعيم الكفاح الوطني الهندي والحركة الاستقلالية المهاتما غاندي لقي مصرعه على يد متطرف هندوسي عام 1948 لان (المهاتما) كان يدعو الى التسامح بين الهندوس والمسلمين وغيرهم من الطوائف والى تسوية سلمية للنزاع حول كشمير كما تم اغتيال انديرا غاندي على ايدي جنود من طائفة (السيخ) من افراد حرسها لانها امرت باقتحام (المعهد الذهبي) في امريتسار, بالقوة المسلحة لوضع حد لحركة السيخ الانفصالية في البنجاب كما تم اغتيال ابنها راجيف غاندي على يد امرأة انتحارية من التاميل, المعادين للسلطة المركزية, في جنوب البلاد. لذلك كله فإن نيودلهي تخشى ان يكون انفصال كشمير سابقة تفتح الباب لانفصال قوميات اخرى.. وفضلا عن ذلك فإن ثروة الاقليم وموقعه الاستراتيجي المهم سببان رئيسيان لحرص الهند على الحاق الجزء الذي تسيطر عليه من الاقليم (ولاية جامو كشمير) . كما ان صعود التيار القومي الهندوسي المتطرف الذي يمثله حزب (بهاراتيا جاناتا) بدءا من الثمانينات ثم ترسخه في التسعينات يعكس انتشار الامزجة الطائفية (الهندوسية) والقومية المتطرفة بين جماهير الشعب الهندي كما يغذي هذه الامزجة. وتتجه هذه الامزجة الرجعية المتطرفة بالدرجة الاولى نحو المسلمين الهنود (120 مليوناً يمثلون 12% من السكان) الامر الذي تجسد في تدمير المسجد البابري بمدينة ايودا في ديسمبر 1992 ومذابح وصدامات طائفية عديدة ضد المسلمين. ويسعى المتطرفون الهندوس لتصفية الحساب مع الاسلام الذي عرف طريقه الى شبه القارة الهندية منذ عهد بني امية بفتح السند, ثم بغرض سيطرة الدولة الاسلامية على السند وكشمير في عهد الخليفة العباسي الثاني ابي جعفر المنصور (حكم من 745 حتى 775م) ثم بضم البنجاب (باكستان الحالية وجزء من شمال غربي الهند) الى مملكة السلطان محمود الغزنوي (حكم من 998 ــ 1030م) الذي توغل في شبه القارة الهندية 12 مرة, وعبر نهر الجانج, وتقدم حتى مدينة جوجرات في قلب شبه الجزيرة وبعد ذلك جاءت سلطنة دلهي (1206 ــ 1526م) وتلتها امبراطورية المغل التي خلفت سلطنة دلهي, وسيطرت على الجزء الرئيسي من الهند, حتى جاء الاستعمار الانجليزي ليخلفها ومن اهم اثارها ضريح تاج محل. ورغم الصفحات الحضارية الناصعة لهذا التاريخ, فإنه يمثل خلفية سلبية بالنسبة للمتطرفين الهندوس, فيوجهون مشاعرهم العدوانية ضد مسلمي الهند وكشمير, ويوجهون عداءهم القومي ضد باكستان, ماداموا عاجزين عن التغلب على الصين جارهم الاقوى! ومع تصاعد مثل هذه المشاعر العدائية كان من الطبيعي ان تعاود الانتعاش حركات الاستقلال الكشميرية (وابرزها جبهة تحرير جامو وكشمير الانفصالية العلمانية) . وكذلك الحركات الاسلامية الكشميرية وابرزها (حزب المجاهدين) الداعي الى الانضمام الى باكستان. وكان نجاح المجاهدين الافغان في الاطاحة بنظام نجيب الله عام 1992 عنصرا مهما للغاية في انعاش آمال الكشميريين في الاستقلال وخاصة في تنشيط الحركات الاسلامية المسلحة التي تدعمها باكستان ثم كانت انتصارات حركة (طالبان) في افغانستان وزيادة نفوذ الحركات الاصولية في باكستان دافعا اخر لزيادة الدعم الاقليمي (الباكستاني والافغاني وايضا دعم الافغان العرب) للكشميريين وخاصة للاتجاهات الاصولية بينهم الامر الذي دفع حركتهم بقوة في السنوات الاخيرة. وهكذا تلقي العناصر والجذور التاريخية للصراع في جامو وكشمير بظلالها الكثيفة على حاضر هذا الصراع وآفاقه المستقبلية, دافعة بنيودلهي الى مزيد من التشدد والامعان في قمع الكشميريين بوحشية متزايدة, مع صعود الاتجاهات القومية الهندوسية المتطرفة متمثلة بصورة اساسية في (بهاراتيا جاناتا) وخاصة مع اقتراب الانتخابات النيابية في الهند. لكن درس التاريخ يقول ان من الصعوبة بمكان قمع آمال شعب في الحرية, مهما يكن هذا الشعب صغيرا, مادام مصرا على النضال من اجل حريته. كاتب سياسي مصري

Email