خبير عالمي في الجيولوجيا يحذر: مصر تواجه نقصا حادا في المياه بعد 20 سنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

قدم العالم المصري الكبير الدكتور رشدي سعيد استاذ الجيولوجيا بالجامعات الامريكية رؤية جديدة لتنمية مصر في محاضرة القاها الاسبوع الماضي في مركز دراسات وبحوث الدول النامية بجامعة القاهرة . تركز هذه الرؤية على الموارد الطبيعية لمصر باعتبارها مجال تخصصه واهتمامه, وتقوم على وضع خطة عاجلة للتحديث, تعتمد على التصنيع وليس الزراعة فقط. كما تعتمد على ترشيد استخدام مياه نهر النيل لان مصر ستواجه بعد 20 عاما ندرة شديدة في المياه, حينما تطالب دول المنبع اما باعادة تقسيم حصص المياه, او بيعها لمصر. وينبه د. رشدي الى عدم الاعتماد على المياه الجوفية نظرا لان المخزون منها يتناقض, ولايمكن تعويضه بسبب ندرة مياه الامطار التي تسقط على مصر. ويؤكد على اعتبار الوادى والدلنا محمية طبيعية, للحفاظ على ارضها التي هي افضل واخصب الاراضي على مستوى العالم, واقامة تجمعات حضارية في الصحراء, حول صناعات معينة, وليس زراعتها, لانها مكلفة وعائدها لن يكون اقتصادي, والاستفادة بالمخزون الهائل من الغاز الطبيعي في الصناعة وليس تصديره كما فعلت دول اوروبية عديدة ابرزها ايطاليا. يبدأ د. رشدي سعيد بعقد مقارنة بين مصر والدول العربية من ناحية واسرائيل من ناحية اخرى, محذرا من استمرار اتساع الفجوة الاقتصادية والعسكرية لصالح اسرائيل قائلا: (في بداية السبعينات لم يكن الفرق بين الجانبين كبيرا, بل كان هناك تقارب في المستوى ثم بدأ النمو في كلا الجانبين, ولكن بشكل محدود في الدول العربية, بينما فقدت اسرائيل قفزت اسرائيل قفزات ضخمة اقتصاديا وعسكريا, حتى اصبح جملة الدخل القومي لـ 6 ملايين نسمة, هم عدد سكان اسرائيل, يعادل الناتج لعدد سكان الدول العربية مجتمعة, اي لـ 90 مليون عربي, بل واضح دخل الفرد الاسرائيلي يعادل 15 ضعف دخل المواطن العربي. ويقول د. رشدي ان النخبة في مصر قلقة من هذا الوضع غير المتكافىء, ومن الفجوة الواسعة مع اسرائيل, ليس فقط لاننا نريد ان نلحق بها, او نتساوى معها, انما لان العالم كله يضغط على مصر والعرب, من اجل التطبيع مع اسرائيل, وعقد اتفاقيات سلام وهو الامر الذي لن يكون في صالحنا في ظل الوضع الحالي, فالسلام العادل لايتحقق من دون ندية الطرفين) . ومطالبا بضرورة قيام النخبة بعملية التحديث, من خلال وضع خطة لتحقيق ذلك, في حدود مواردنا المتاحة يتابع الدكتور رشدي الحديث قائلا) : التحديث الذي نريده هو عملية شاملة في كل مجالات الحياة, وليس مجرد شراء اجهزة وتقنيات حديثة من الغرب, واعتبار ان هذا هو التقدم والتنمية, بل لابد من بناء انسان خلاق مبدع, قادر على القيام بعملية التنمية والتحديث بنفسه, ومن خلال افكاره وانتاجه. ولا اتصور اننا يمكن ان ندخل قرن جديد, ونحن نعاني من اهمال في التعليم بكافة مراحله, وطالما استمر الوضع على هذا الحال, فإن الثمن سيكون باهظا جدا وليس معقولا ان ننفق ونبذر بشكل غير معقول في قطاعات عديدة, ولا نخصص جزء من هذه الاموال لاصلاح احوال التعليم خاصة الجامعي. ويشير د. رشدي سعيد الى النخب الحاكمة في مصر التي رأت التحديث في الزراعة فقط, واهملت الصناعة او لم تعطها المكانة اللائقة بها, انما كانت دائما في الخلفية حتى في عصر عبدالناصر موضحا ان مشروع السد العالي نفسه, كان الهدف الاساسي من وراء بنائه هو الزراعة, ويأتي بعدها توليد الكهرباء, ومطالبا بضرورة التفكير في قواعد تشغيل السد والنظر له على انه مشروع صناعي سياحي زراعي. ويصف العالم المصري الكبير القرن العشرين بأنه قرن الاحباط (بداناه بنشاط وامل, فتم اقامة مؤسسات قوية للبحث العلمي, لكن في نهاية اكتشفنا اننا لم نستفد منها شيء ولم ننتج ماله قيمة ويضرب مثلا ببرنامج التصنيع الحربي الذي مول عربيا واملا في اقامة صناعة عسكرية عربية, لكن ذلك لم يحدث واختفت الهيئة العربية للتصنيع, ولم يعد لها دور في صناعة السلاح كما بدأنا نشيد مؤسسة الطاقة الذرية, لكنها اختفت بعد 10 سنوات, وفقدنا كثير من العلماء والباحثين بالجامعات, الذين كانت لديهم القدرة على اجراء ابحاث علمية حقيقية. ويؤكد د. رشدي ان الشخص الوحيد الذي حكم مصر, وكانت لديه رؤية للتحديث والدخول الى عالم الدول المتقدمة هو محمد علي على الرغم من ان هدفه كان بناء مجد شخص له, لكنه نظر للتحديث بشكل شامل, لاحداث نقلة نوعية وتكوين جيش قوي, فاتهم بالتعليم, واوفد البعثات لاوروبا, واقام المدارس, وحدد علاقاته بالمؤسسة الدينية, وقام بتصفية من كانت لديهم مصالح تمنع التقدم مثل المماليك. وكان التحديث وبناء الجيش يتطلب صناعة ورأسمال, لذلك فكر في نظام الري المستديم, واهتم بالزراعة للحصول على الفائض منها لتحقيق هذه الاهداف. وينتقل د. رشدي سعيد للحديث عن الموارد الطبيعية لمصر, فيقول: ان المعرفة الحقيقية للموارد وحدودها هو الاساس لوضع اي تخطيط لتشكيل مصر, والمورد الطبيعي الحاكم في تحديد مستقبل مصر هو المياة, ولكن يجب الا نتصور ان لدينا وفرة من المياة بوجود نهر النيل.. ابدا, لان مصر تقع في منتصف حزام الصحاري, والصحراء المدارية التي تمتد من المغرب الى منتصف آسيا وربما هي في اقحل منطقة في هذا الحزام. كما ان الامطار التي تسقط على مصر قليلة جدا, واكثر منطقة يسقط عليها المطر وهي بلطيم والساحل الشمالي لايتعدى معدل المطر بها 150 ملليمترا, بينما هذا المعدل في شمال افريقيا يحسب بالامتار. ويقول: اذا كان البعض يعتقد ان لدينا مياة جوفية كافية فإن هذا الاعتقاد غير دقيق, لان مخزون المياة الجوفية يأتي من الامطار, وكما قلت فإن الامطار قليلة جدا, والمياه الجوفية الموجودة الآن هي مخزون امطار من عصور سابقة, كانت الامطار فيها كثيرة وعندما نستنفذها فلن يحل محلها مياة اخرى, بسبب ندرة المطر.. واذا كان البعض يعتقد أيضا ان المياه الجوفية تتجدد, من خلال انسياب المياه من المناطق الممطرة في جنوب مصر وشمال السودان, فانه تم حفر آبار في المناطق الجنوبية, فوجدنا ان معدلات انسياب المياه محدودة جدا, وتحتاج لآلاف السنين, حتى تحل محل ما يتم سحبه من المياه الجوفية في عشرات السنين, وفي الستينات تم حفر ابار كثيرة في المناطق الصحراوي, فكانت المياه تخرج من البئر بمعدل 160 مترا في الساعة. وقد تراجع الآن هذا المعدل الى 20 مترا في الساعة ثم 12 مترا في الساعة كما ان هناك ابارا جفت واخرى اختفت. كما ان المناطق المزروعة بالاسكندرية والتي تروى على هذه الابار, تعاني صعوبات من جفاف الابار وزيادة ملوحة المياه. وبالنسبة لمشروع شرق العوينات, فانه مدروس بشكل جيد, ومعروف مسبقا ان كمية المياه الموجودة بالمنطقة تكفي لزراعة 190 آلف فدان لمدة 100 سنة. ولكن رفع المياه من الاعماق يتكلف الكثير, ولذلك لابد ان نفكر مرتين قبل زراعة الصحراء, فهي زراعة مكلفة وغير مجدية وتلتهم اموالا ضخمة. ويشرح د. رشدي سعيد ان نهر النيل هو المورد الحقيقي للمياه في مصر وتبلغ حصتها السنوية منه 55.5 مليار متر مكعب, بينما تحصل السودان على 18.5 مليار, واتفاقية توزيع المياه مع السودان ثنائية, ليس لها صفة الدولية, وهي غير مقبولة من دول المنبع كلها. ويؤكد اننا نبذر في استخدام المياه, ولهذا وضعت وزارة الاشغال والموارد المائية مشروعات وخطط عديدة, لترشيد استخدام المياه, واحدى هذه الخط هي تسعير وبيع المياه للفلاحين, وهو نظام موجود في اسرائيل. ولكن اكدت عدم ضرورة تنفيذ هذه الخطة في الوقت الحاضر, لان جزءاً كبيراً من التبذير في المياه تتحمل الدولة مسؤوليته وليس الفلاحين, وعندما تقوم الدولة باجراءات معينة للحفاظ وترشد المياه للاجيال المقبلة, عبارة عن تقنين استخدام المياه وتغيير التركيب المحصولي واعادة استخدام مياه الصرف, وتطهير الترع والمساقي وتكسيتها, وفي هذه الحالة يمكن تسعير المياه. ويدق د. رشدي سعيد ناقوس الخطر قائلا على الرغم من وجود نهر النيل الا ان مصر تعيش عصر ندرة المياه, وهذا الكلام لن أمل من تكراره, ولكن يبدو ان هذه الرسالة لا تريد الوصول للمواطنين ولا للنخب الحاكمة. وعلى الرغم من ندرة المياه فقد كان هناك في بعض الفترات تفكير في تنفيذ مشروع لتوصيل المياه لليبيا, كما ان الرئيس الراحل السادات كان يريد توصيل المياه لاسرائيل, وطالب كذلك برلماني راحل ببيع المياه للسعودية. ويحذر من اننا سنواجه تدهورا خطيرا في المياه ودلالة ذلك ان نصيب الفرد في عام 1929 كان 4 الاف متر مكعب, تناقص حتى بلغ الآن 900 متر مكعب, وبعد 20 عاما سيكون 500 متر فقط. ويواصل تحذيره قائلا ان مصر لديها مشكلة ضخمة فهي دولة مصب ومنابع النيل بعيدة عنها, وليست تحت سيطرتها كما ان اتفاقية توزيع المياه مع السودان, هي اتفاقية ثنائية ليس لها صفة الدولية وغير مقبولة من دول المنبع كلها. وما يجعل موقف مصر قويا الان, ان لها وزن وتأثير بين دول حوض النيل, اما الدول الاخرى فهي ضعيفة, تعيش في حروب وفوضى, ولذلك تفرض مصر ارادتها عليهم, ولمدة عشرين او خمسة وعشرين عاما قد تكون مصر قادرة على تأمين احتياجاتها من المياه والحصول على حصتها منها, لكن سيكون من الصعب زيادة هذه الحصة. ويتابع د. رشدي لا اعرف ماذا سيحدث من جانب هذه الدول بمرور الوقت, فهناك نظرية جديدة تتبناها بعض الدول التي تنبع الانهار من اراضيها, ومنها تركيا, بالاتجاه الى بيع مياه نهري دجلة والفرات التي تنبع من اراضيها الى الدول العربية المستفيدة من النهرين, ولها وجهة نظر في ذلك اذ تقول انه طالما يوجد نفط في هذه الدول, وتقوم ببيعه, فلماذا لا تبيع هذه الاخرى المياه التي تنبع من عندها, وهذه النظرية يمكن ان تطبقها معنا الدول التي ينبع منها نهر النيل, وانبه الى ان هذا النمط ليس له علاقة بالقانون الدولي, لكن هناك اتفاقية دولية, تنص على توزيع المياه على الدول التي تقع على الانهار, بشكل عادل, وتمت الموافقة عليها داخل الجمعية العامة للامم المتحدة عام ,97 وللاسف لم يوقع عليها الا ثلاث دول فقط. ويشير د. رشدي في اطار هذه المخاطر الى ان اسرائيل التي ستعاني هي الاخرى من مشكلة شح المياه بعد 20 عاما, يمكن ان تتدخل لدى الدول الافريقية, التي ينبع منها نهر النيل للحصول على المياه ومنعه عن مصر, واذا نجحت وزارة الخارجية المصرية في ضمان الحصول على حقوقنا من المياه فان هذا سيكون عمل دبلوماسيا جيدا. والحقيقة ان ازمة المياه لن تقتصر علي مصر فقط بل ستشمل ايضا الدول المجاورة, والتي ستمارس ضغوطا على مصر من اجل الحصول على المياه, فمثلا الاردن تعاني من ندرة المياه بشكل واضح, ونصيب الفرد فيها 220 مترا مكعبا في السنة, ستضطر لاتخاذ اجراءات غير تقليدية, كبيع المياه بأسعار غالية, او استخدامها في السياحة فقط باعتبارها تدر دخلا مجزيا. قد يقترح البعض تحلية مياه البحر كحل للازمة, وهي فكرة جيدة لكنها تحتاج لتكنولوجيا معقدة ومتقدمة جدا, كما ان نقل هذه المياه لزراعة الاراضي سيجعلها غير اقتصادية ومكلفة, وهو في النهاية حل غير مجد. ويقترح د. رشدي سعيد كحل لهذه المشاكل ان ينفذ ما طالب به, وهو تحويل منطقة الوادي والدلتا الى محمية طبيعية, لان ارضها السودان من اخصب الاراضي وافضلها في العالم كله, ومن العبث استخدامها في غير اغراض الزراعة, كاقامة المساكن والمصانع والمنشآت ثم الذهاب بعد ذلك لزراعة الصحراء. والزراعة في الوادي والدلتا يجب ان تكون زراعة متقدمة بالتوسع الرأسي واستخدام طرق الزراعة العلمية والهندسة الزراعية. لكننا نواجه تحديات ابرزها ان الزراعة في هذه المناطق, هي زراعة مروية, وهي مكلفة انما الزراعة يجب ان تكون تنافسية, اي يكون عائد متر المياه من المحاصيل معقولا بحيث يغطي تكلفة المياه مع تحقيق هامش ربح, وبذلك يمكن للفلاح المصري منافسة الفلاح الاوروبي. ويطالب د. رشدي بجانب تخصيص هذه الاراضي للزراعة فقط, تخفيف الزحام عن الوادي والدلتا, بنقل السكان الى مناطق خارجها ويقترح لذلك تحويل الصحراء الى مدن ومناطق للتجمعات الحضارية, حول نشاط صناعي معين يجذب الناس. ويشير مرة اخرى الى انه لا يميل لزارعة الصحراء, وان اي توسع افقي لا قيمة له, لانها اراض غير سوداء, والتكلفة ستكون باهظة وغير مجدية.. وهذا الرأي ينسحب ايضا على مشروع توشكى, الذي كان له رأي فيه منذ بداية الحديث وقبل تنفيذه. واخيرا.. يؤكد ان من ابرز مصادر الثروة المكتشفة في مصر هي الغاز الطبيعي, وان نسبة نجاح اكتشافه 95% وهذا غير موجود في اية دولة في العالم وسيكون لدى مصر مخزون هائل منه مع توالي الاكتشافات, ويطالب بضرورة الاحتفاظ بالغاز واقامة صناعة عليه, مثلما حدث في ايطاليا حيث اكتشف الغاز في البحر الادرياتيكي, وعليه قامت نهضتها الصناعة الحديثة. ويحذر من تصدير الغاز عبر خط الانابيب المقترح الى تركيا مشيرا الى ان اسرائيل ستحصل على الغاز من خلال هذا الانبوب (فنحن اولى به لتحقيق طفرة صناعية هائلة) . القاهرة ــ طه خليفة

Email