كتاب حديث الصدور،مادلين أولبرايت،فصول من حياتها(1 ــ 3)أولبرايت:الميلاد في براغ واللجوء إلى لندن والازدهار في واشنطن، بقلم : الكاتبة الأمريكية آن بلاكمان

ت + ت - الحجم الطبيعي

الكتاب يتناول سيرة مادلين أولبرايت ــ المرأة التي تتولى أهم منصب, بعد الرئاسة, في الولايات المتحدة وهي سيرة تبدأ بمولدها في تشيكوسلوفاكيا في مرحلة الاضطراب الدولي مع نشوب الحرب العالمية الثانية وتنتهي عند فترة اعداد الكتاب في منزل وزيرة الخارجية الأمريكية الوثير في ضاحية جورج تاون قرب العاصمة واشنطن ــ بكل ما حفلت به هذه السيرة من وقائع وتحولات مثيرة في بعض الأحيان تمثل كل منها مرحلة درامية في حياة رئيسة الدبلوماسية الأمريكية ما بين طفولتها في أسرة هاربة من النظام النازي ولاجئة إلى انجلترا, ويفاعتها في الأسرة المهاجرة الغريبة إلى الولايات المتحدة إلى زواجها الذي انهار بعد 23 عاما.. إلى اشتغالها بالتدريس الجامعي وبالعمل السياسي ومن ثم بالعمل الدبلوماسي الذي بدأته من أعلى سلم الصعود. المؤلفة آن بلاكمان من الجيل المخضرم في الصحافة الأمريكية ومن كبار محرري مجلة (تايم) وقد عملت مراسلة للمجلة في موسكو حتى عام 1990 وظلت توافي (تايم) بتحقيقاتها وتحليلاتها حول مجتمع واشنطن وأسراره ومسؤوليه وخاصة عقيلة الرئيس الأمريكي, هيلاري كلينتون. أسلوب اعداد الكتاب: رجعت المؤلفة إلى مصادر شتى: أرشيف المحفوظات الرسمية في أمريكا وبريطانيا والجمهورية التشيكية. أجرت مقابلات مكثفة مع 200 شخصية من أقارب وأصدقاء وزملاء مارجريت أولبرايت ومن كبار الشخصيات التي تواصلت معهم وعلى رأسهم بيل كلينتون رئيس أمريكا وفاكلان هافيل رئيس التشيك وكوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة. ثم مقابلات مسجلة ومطولة مع (موضوع) الكتاب شخصيا وفي اطارها أدلت وزيرة الخارجية الأمريكية باضافات وتعليقات اتسمت بالصراحة والمكاشفة حول جوانب حياتها في الماضي والحاضر مما أثرى مادة هذا الكتاب. (فصول من حياتها) هو العنوان الرئيسي لكتابنا حول السيرة الشخصية لوزيرة خارجية أمريكا, مارجريت أولبرايت, وبكلمة (فصول) لا تعني مؤلفة الكتاب الأقسام أو الأجزاء بل تقصد إلى مواسم الطبيعة المعروفة ما بين قتامة الشتاء واشراقة الربيع وقيظ الصيف وجهامة الخريف ومن ثم فقد تذهب إلى عنونة الكتاب على انه (مواسم من حياتها) أودعتها المؤلفة (آن بلاكمان) في نحو 400 صفحة من القطع المتوسط مقسمة على 26 فصلا من فصول الكتاب. على ان الذي يهمنا من التقسيم هو الأجزاء التي لجأت المؤلفة إلى تصنيفها لتشكيل أربع مراحل في حياة صاحبة السيرة والأجزاء تجري على النسق التالي: الأول: مادلينكا ــ الطفلة التشيكية المولودة في عائلة يهودية (لم تكتشف هذه الأصول اليهودية إلا بعد أن أصبحت الطفلة امرأة في كهولة العمر.. بل أصبحت, وهذا هو الأهم في رأينا وزيرة الخارجية في أكبر دولة بالعالم). الثاني: مادلين ــ في مراحل المراهقة والصبا ونضارة الشباب وهو جزء التكوين الحقيقي وبالغ التأثير في حياة أولبرايت ـ جزء التدريب في صحبة عضو كبير في مجلس الشيوخ الأمريكي, وجزء الحب والزواج والأسرة والأطفال, وهو أيضا الجزء الذي ينتهي بالطلاق والانفصال. الثالث: هو المتعلق بالمرأة المطلقة الوحيدة التي آثرت, أو كتبت عليها المقادير أن تفارق حياة الأسرة إلى ساحة الحياة العامة معتمدة على نفسها وملتمسة سبل التدريب والممارسة ومعاودة الدرس الأكاديمي والاستعداد لفرص تسنح في المستقبل. الرابع: وعنوانه مدام امبسادور وهو الخاص بالسفيرة أولبرايت التي اختارها الرئيس بيل كلينتون مندوبة لأمريكا لدى الأمم المتحدة وهو ليس منصبا لسفير عادي في السلك الدبلوماسي الأمريكي, بل هو منصب مهم يحتل صاحبه منصب كبير السفراء ويحمل رتبة وزارية تجعله عضوا في مجلس الوزراء ومعاونا أقرب وأقدم إلى جوار الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية للبلاد, ثم ان هذا الجزء الأخير من الكتاب ينتقل بالقارئ الى الحديث عن (مدام سكرتاري) بمعنى السيدة وزيرة الخارجية وبعدها تعمد مؤلفة الكتاب الى حديث بعنوان (القنبلة التي انفجرت) وتعني بها عند أواخر الكتاب ذلك الاعلان الذي دوى صداه في أسلاك البرق (اجواز الاثير في العالم) عن ان وزيرة خارجية امريكا ــ قد وفقت ــ بحمد الله ومنّته الى اكتشاف ــ أو اعادة اكتشاف أصولها اليهودية وقد شارفت الستين من العمر(!) وأصبحت رئيسة الدبلوماسية لكبرى دول المعمورة (ترى ــ لو كانت قد واصلت حياتها كربة أسرة وزوجة رجل من أهل الميديا الأمريكية .. هل كانت ستكتشف تلك الجذور أو تعيد الاكتشاف؟!). وفي كل حال تتمثل ميزة هذا الكتاب برأينا في أسلوب العرض الصحفي المشوق الذي لجأت اليه مؤلفته ــ وهي صحفية مقتدرة كما أسلفنا ــ بل ان الاسلوب يصل احيانا الى الجمع بين دقة التحقيق في التواريخ والوقائع وبين مهارة المفاعلة أو المزاوجة بين الخطوط الشخصية والشؤون الذاتية لصاحبة السيرة, وبين خطوط ومسارات التاريخ الأوروبي والأمريكي العام عبر الأعوام الستين الماضية, ثم يحلق أسلوب العرض أحيانا إلى ذرى الدراما حين تكتسب العبارات أبعادا إنسانية تشي بالمهارة الحرفية ــ التقنية التي توافرت لمؤلفة الكتاب التي تفتح صفحاتها على مكان بعينه هو بوهيميا ــ أرض الغجر الرحل والملوك الأقدمين والطبيعة المتوحشة في سحرها الآخاذ في وسط أوروبا, وعند زمان بعينه هو يونيو من عام 1878 ــ تاريخ ميلاد طفل اسمه ارنست كوربل ما كان لأحد أن يوليه يوما أي اعتبار فما أكثر من شهدته قرى بوهيميا القصية المجهولة من مواليد يجيئون ويذهبون, لولا أن كوربل هذا هو الجد ــ من ناحية ــ الأب ــ لموضع كتابنا مارجريت كوربل أولبرايت. لكن التاريخ الأهم بالنسبة لمحور الكتاب هو: السبت, 15 مايو 1937 حين ولدت الطفلة ماري كوربسلوفا في احد مستشفيات العاصمة التشيكية براغ, وكان والدها جوزيف كوربل يعمل ملحقا صحفيا في السفارة التشيكية في بلجراد وقد عمد أهلها إلى عبارة لها دلالاتها الخاصة كتبوها عند خانة الديانة في شهادة ميلاد الطفلة والعبارة بالألمانية تقول: (بيز فزناني) ومعناها (بغير مذهب) غير محدد الديانة وتلك عبارة كان يلجأ إليها اليهود في وسط أوروبا ــ اثرياؤهم بالذات ــ كيما يتفادوا صدامات كانوا يرونها متوقعة مع نظام هتلر الذي يواصل صعوده وتشدده في تلك الأيام المنذرة بعواصف الصراع العالمي من عقد الثلاثينات. وما كان من جدة الوليدة إلا ان خلعت عليها اعزازا ودلعا, اسم مادلينكا وهو الاسم الذي عرفت به طيلة طفولتها وردحا من صباها الأول وان كان العالم بات يعرفها باسمها الراهن (مادلين ــ كوربل ــ أولبرايت) . بعد ذلك تحيل مؤلفة الكتاب الى مقالة كتبتها (ماندولا كوربل) والدة مادلين وقالت فيها: لم تدم سعادتنا طويلا للأسف. لقد كان هتلر قد بلغ من القوة والعدوانية مبلغا فائقا فيما كانت الديمقراطيات الغربية من الاستضعاف بمكان. من هنا كانت جمهورية تشيكوسلوفاكيا الديمقراطية الصغيرة هي اول من كابد المحنة وعانى معها ملايين من البشر الابرياء. هكذا قضت الظروف بفرار عائلة جوزيف كوربل ــ الزوج والأم وبين يديها طفلتها ماد لينكا وعمرها سنتان ــ الى العاصمة اليوغسلافية بلجراد التي تجهمت في وجه الهاربين لانها انحازت الى الالمان.. مما دفعهم الى مخطط سري آخر هربوا في اطاره الى لندن حيث كانت معيشتهم تقرب احيانا الى حد الكفاف.. تعود المؤلفة الى كتابات شخصية بقلم الام ماندولا كوربل تقول: على امتداد ست سنوات عشنا في لندن حياة السكان الرحل.. نتنقل حسب التساهيل من مكان الى مكان, ونعيش فوق اثاث يملكه غيرنا وكان السبب في هذا القلق والترحال اما التماسا لمزيد من راحة او لضيق ذات اليد, او توخيا للأمن والسلامة. ثم تنتقل المؤلفة ــ وهذا طبيعي ــ الى الحديث عن تفاصيل توردها حول اضطهاد اليهود وعذاباتهم في ظل الحكم النازي وتحاول التركيز في هذا الموضع من الكتاب او ذاك عن تعرض فريق من أهل واقرباء مادلين اولبرايت الى الشحن عبر قطارات خاصة الى معسكرات التجميع او السخرة او الاعتقال الجماعي على يد رجال الجستابو ــ الأمن والمخابرات الهتلرية ــ والحديث معاد مكرور قيل فيه الكثير.. وان كان يتميز بطابع شخصي يحمل اسماء عائلة كوربل التي تنتمي اليها مرجريت. وبعد انكسار النازي سنحت للمهاجرين العودة الى براغ.. كانت (مادلين) قد شارفت الثامنة من العمر, وعاينت عيونها ما تخلف عن جحيم الحرب الكونية من تخريب ودمار واطلال.. تصفها المؤلفة بانها كانت بمثابة قطعة من الجحيم ما برحت راسخة منطبعة الصورة في وجدان مدام اولبرايت حتى وهي في سنواتها الستين ورغم مظاهر الابهة وعلو المنصب الذي تتبوأه في الخارجية الامريكية. ورغم اضطراب الاحوال في تشيكوسلوفاكيا المحررة بين سطوة الشيوعيين وصراعات الديمقراطيين فقد كوفىء كوربل الأب على جهوده التي بذلها في لندن خلال الحرب في معارضة النازي وعينوه سفيرا لبلاده في بلجراد. ومع ذلك لم يجد السفير الجديد نفسه معزولا عن صراعات ما بعد الحرب ذاتها بل عامله اليوغسلافيون بقدر من التشكك وعدم الارتياح.. ولكم شعر بأن أصدقاءه القدامى قد تغيروا ولم يبادلوه الاتصال.. وتبدلت مواقفهم في ظل النظام الجديد في بلجراد الذي كان يقوده منذ منتصف الاربعينات الزعيم (جوزيف بروز تيتو) . ورغم كل ما ساقته اولبرايت ومؤيدوها من معارضة أبيها الدبلوماسي جوزيف كوربل للنظام الشيوعي الذي سيطر على تشيكوسلوفاكيا منذ اواسط الاربعينات, فإن محفوظات الدولة في براغ ــ كما حققتها مؤلفة الكتاب ــ تؤكد ان كوربل ــ الاب ظل في خدمة النظام الشيوعي, مدة ليست بالقصيرة.. وظل مشاركا بفعالية ونشاط, سواء في سفارتهم في بلجراد او كممثل لبراغ في كبرى لجان الامم المتحدة. مع ذلك تقول اوساط اولبرايت ان كوربل الاب (اليهودي الاصل حتى لا ننسى) ظل يخدم الشيوعيين, من تحت الضرس, كما قد نقول لا اقتناعا بنظامهم القائم في بلده الاصلي, ولكن تمهيدا لترتيب هروب عائلته مرة أخرى الى الغرب ومن ثم الى أمريكا (التي خبر السفير التشيكي نعومة الحياة فيها أو الفرص المتاحة على صعيدها حين كان يؤدي مهامه الدبلوماسية). في هذا السياق يقول بعض من عرفوه انه ربما عقد اتفاقا سريا في تلك الفترة مع دبلوماسي بريطاني ليساعده على ترحيل عائلته تحت جناح السرية المطلقة الى الولايات المتحدة. وهنا تحرص مؤلفة الكتاب الحصيفة على ان تفتح قوسا واسعا وتقول فيه بالحرف: ــ (لقد كان من دأب وكالة المخابرات المركزية الامريكية المنشأ حديثا وقتها ــ ان تساعد المنشقين السياسيين على الفرار من شرق أوروبا. ومع ذلك فالمخابرات الامريكية ترفض ان تؤكد أو تنفي انها ساعدت جوزيف كوربل ــ والد مارجريت أولبرايت ــ على الوصول الى الولايات المتحدة وتصر الوكالة المركزية على ان السياسة المعيارية التي تتبعها في هذا الصدد على طول الخط هي (لا تعليق) ) مع ذلك كانت محطة اللجوء الأولى هي لندن عاصمة الضباب من جديد.. لم تكن نوايا السفير كوربل قد انكشفت لحكومته بعد, وقد ساعده على ذلك كثرة سفرياته في مهام دبلوماسية ممثلا للنظام الشيوعي في براغ. ثم جاء يوم 12 ديسمبر من عام 1948 ليشهد بيانا صادرا عن وزارة الخارجية التشيكية يعلن فيه الوزير طرد جوزيف كوربل من وظيفته كسفير لبلاده وممثلا لها في أنشطة الأمم المتحدة, وخاصة في لجنة التوفيق بين الهند وباكستان بشأن مشكلة كشمير, بل ان البيان دفع كوربل بخيانة بلاده وأعلن تجريده من جنسيتها مع مصادرة ما لديه من ممتلكات, ولكن بعد ستة أيام من الاعلان, وجد السفير (السابق) جوزيف كوربل نفسه على متن الباخرة الفارهة (كوين ماري) تعبر به المحيط الى حيث الأمان والطمأنينة في أمريكا, وقد ركن صاحبنا الى الدعة الفاخرة في كابينة الدرجة الأولى! وفي جعبته ست حقائب من متاع. وللقارىء ان يتساءل: هل هذه وضعية سياسي أم دبلوماسي هارب من بلاده ولاجىء ــ يا حبة العين ــ الى بلد جديد؟ تقول المؤلفة ان الذي دفع كل تكاليف الرحلة الباذخة هيئة الأمم المتحدة التي لم تفلح البيروقراطية في حكومة براغ في ابلاغها بقرار طرد سفيرها المنشق.. وقد يقول منطق الاشياء وتجارب الاحداث ان ثمة جهات أخرى كان لها مصلحة في تسفير وتأمين, وربما (تدليل) رجل دولة منشق على حكومة وطنه, وهاهو يأتي محملا بحقائب ست لا يعلم الا الله ما تحويه من وثائق ومفعما في صدره بأسرار شتى يسيل لها لعاب هيئات المعلومات والاستخبارات. وعلى كل حال فإن المؤلفة تخلص من هذا العرض الحافل للخلفية التي نشأت فيها مادلين أولبرايت الى عبارات حول سلوكيات والدها جوزيف كوربل ننقلها بحروفها فيما يلي: ــ أدت أحوال التاريخ التي اجتاحت أوروبا على مدار العقد الزمني الفاصل بين عامي 1938 و1948 الى ان ظل (جوزيف كوربل) يوازن بين ولاءاته فيختار بين وظيفة ذات مستقبل مرموق في تشيكوسلوفاكيا, وحبه لوطنه التشيكي وبين سلامة أسرته. وفي النهاية تغلب حبه لأسرته وللمثل الديمقراطية التي يؤمن بها! لم يكن أصدقاؤه وزملاؤه يتفقون دائما مع القرارات التي يتخذها وهو يتفاوض ويرتب من أجل ظروف أكثر أمنا وازدهارا لأبنائه واحفاده. ولكن كان عليهم ان يقدروا نوازعه العملية ومهاراته البراجماتية, وقد كان يسبح وسط موجات عاتية ومختلطة في دوامة السياسة والبروباجندا, وكان من شأن أية حركة خاطئة ان تفضي به الى سرداب مغلق, فإما السجن وإما الموت. هكذا تقول مؤلفة الكتاب آن بلاكمان. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع ما تذهب اليه, فقد جاءت آراؤها هذه لتضع نهاية الجزء الأول التأسيسي, كما قد نسميه من حياة وزيرة الخارجية الامريكية مادلين أولبرايت.

Email