الطريق الثالث.. حلف جديد بين التقدم والعدالة: بقلم ـ ممدوح الشيخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

الطريق الثالث كما يعرفه احد أنصاره ـ توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ـ (حلف جديد بين التقدم والعدالة) , ويشارك بلير في صياغة المشروع الجديد سياسيون غربيون عديدون بينهم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ورئيس وزراء ايطاليا وفرنسا ومستشار المانيا جيرهارد شرويدر, وأهم مدلولات هذا التغير الذي يمكن ان تكون له آثار ضخمة انه يعني نهاية الدور الرائد للتشكيل الحضاري الانجلوسكسوني البروتستنتي (أمريكا وبريطانيا) في مسيرة الحضارة الغربية, فعبر ثلاثة قرون كان هذا التشكيل الحضاري القاطرة التي تجر الجميع خلفها, ورغم ضخامة الانجازات التي حققها الغرب نتيجة سيره في هذا الطريق الا ان المرض العضال كان كافيا لا يوليه احد الاهتمام الكافي, وفي العقود الخمسة الماضية كان الاقتراب منه يعنى تعريض صاحبه لخطر المكارثية التي تعاني منها كل الدول الرأسمالية الغربية بدرجات متفاوتة. اما المرض فهو التعارض المغلوط المتصور وجوده بين الرحمة والطموح فالنزوع التعاقدي الجامح الذي يميز الرؤية البروتستنتية الانجلوسكسونية كان دائما يقتل النزوع التراحمي الانساني الذي يميز المجتمعات الكاثوليكية في جنوب اوروبا والمجتمعات الارثوذكسية في شرقها بل يفصل الرؤية البروتستنتية الانجلوسكسونية عن الرؤية البروتستنتية الجرمانية في المانيا وهولندا وغيرها. وخلال مرحلة الصعود كانت الرأسمالية تبدو قادرة ـ وحدها ـ على حل كل المشكلات المادية والمعنوية في حياة الانسان من خلال ترك كل شيء للمنافسة الحرة ـ او بتعبير أدق المنافسة التي لا رحمة فيها ـ بحيث يصبح الفرد قوام كل أشكال التنظيم الاجتماعي والقانوني والاقتصادي دون اي اعتبار للتكوينات الجماعية الاخرى بدءا من الاسرة وانتهاء بالجماعة, والمفارقة الملفتة ان المأزق الذي واجهته التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي كانت الوجه المقابل تماما لهذا, فالحافز الفردي ثمرة محرمة لا يجوز الاقتراب منها وهي احدى المعضلات الخطيرة التي شاركت في تقويض بنيان هذه الامبراطورية. ودون ان ينتبه الطرفان كانا قد اصبحا نظامين طبقيين يعتمل داخل كل منهما صراع طبقي له طرفان أحدهما مهزوم مقهور والآخر منتصر ظالم. التعارض المغلوط في محاضرة بالغة الاهمية ألقاها في مدينة يوكوهاما اليابانية 1992 يحلل المفكر المصري المرموق دكتور انور عبدالملك جذور الأزمة في مدارس الفكر والعمل الرئيسة في العالم فيقول: (ان المستوى التحليلي السوسيولوجي الواضح سيتطلب التركيز على منهج الجماعة, روح المشاركة الجماعية بوصفه المدخل الأكثر قبولا... ويكمن العامل الجوهري في حقل الفلسفة في علم الوجود في فهم جوهر الكينونة ذاته ويكشف تاريخ التناقض في المدارس الفلسفية الرئيسة عن توجهين متمايزين: التصور السائد عن فكرة (التناقض) وهوالمقابلة الضرورية التي لا مفر منها بين عاملين عنصرين أو أكثر مختلفين ومتمايزين, والتي تؤدي بالضرورة وبشكل موضوعي الى الصراع بين العاملين العنصرين, بالمعنى الفكري الأطروحة ونقيض الأطروحة اللذين يحددان التركيب كنتاج لهما. ذلك هو التصور السائد لمفهوم التناقض من أفلاطون الى هيجل وماركس... ويتصل بالموضوع ان نلاحظ ان التقليد الفلسفي الرئيسي الثالث الاسلامي جنبا الى جنب مع التقليدين الرئيسين الاوروبي والصيني يحتفظ بمسافة بينه وبين التصور التصادمي للتناقض... ويميل الى تصور تجميعي للوجود شاملاً لكل أوجهه ومتناقضاته. وقد كتب توني بلير في المقال المشار اليه آنفا المنشور على صفحات الرأي العام الكويتية يعدد اوجه التعارض المغلوط التي جاء الطريق الثالث للقضاء عليها, وهي تعكس تراجعا عن مفهوم الصراع والتناقض التقليدي وتطرح دعائم جديدة لتحالف جديد يوازن بين الحقوق والواجبات وبين الرحمة والطموح وبين اقتصاد المغامرة الفردية والهجوم على الفقر والتهميش. ولعل قضية الفروق الاجتماعية ـ وهو تعبير مخفف بديل عن التفاوت الطبقي الصارخ ـ التي ظهرت في المجتمعات الغربية خلال العقود القليلة الماضية أهم التحديات التي تواجه مسيرة الرأسمالية الغربية, ولذا فليس غريبا ان يدعو جاك ديلور (الذي قاد الدول الاوروبية الى الوحدة الاقتصادية والمالية) الى (اعتماد اطار اقتصادي للمجتمع يخفف او يصحح الفروقات الاجتماعية مع المحافظة على مبدأ الحرية الاقتصادية) . الهرب من الهولوكوست ان دعوة الطريق الثالث تمثل محاولة للهرب من النموذج النازي الذي قام على التخلص من كل الفئات غير النافعة في سبيل تقدم المجتمع وهذا المفهوم كامن في الرؤية الرأسمالية للتقدم فلأجل مزيد من التقدم لا بأس من إلقاء الفئات الأكثر فقرا في محرقة النمو وهذا المسعى لصياغة برنامج نمو اكثر تراحما قد يكون ـ ان قدر له ان يسود في الغرب ـ أهم المتغيرات في القرن العشرين على الإطلاق فالاقتصاد كان خلال القرون الثلاثة الماضية محرك الشرور في هذا الجزء من العالم بدءا من الصراع على الأسواق مرورا بالصراع على طرق التجارة ومصادر المواد الخام والرقيق, وبسبب انفراد دول بعينها باقتسام الاسواق في فترة الاستعمار وبتأثير الكساد الكبير أشعلت ألمانيا النازية الحرب العالمية الثانية, وبسبب التفاوت الطبقي ظهرت الماركسية الشرخ الأضخم في الجبهة الغربية ونشب واحد من اعنف الصراعات الغربية / الغربية بين المعسكرين, والآن يبدو ان بعض العقلاء يريدون نزع فتيل القنبلة باجراء مصالحة تاريخية بين الفرد والمجتمع وبين الأغنياء والفقراء من خلال حل وسط تاريخي. دلالات ومفارقات تعكس دعوة الطريق الثالث دلالات عديدة فكرية واجتماعية وسياسية منها أن دور القيادة يعود مرة أخرى للقارة الاوروبية بعد ان قادت امريكا المسيرة الغربية فهذه الأفكار نبتت ونشأت على يد الأحزاب (الاجتماعية المسيحية) في أوروبا وكانت تربتها الخصبة الثقافة ذات الجذور الكاثوليكية ـ الأكثر تراحما ـ التي تتأهب لتأخذ مكان الثقافة ذات الجذور البروتستنتية التعاقدية, ومن الدلالات المهمة ايضا حديث توني بلير عن دور القطاع التطوعي في الرؤية الجديدة في ظل التراكم السريع في الثروة ظهرت طبقة تسمى (طبقة السوبر الجديدة) في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا كرست حالة التفاوت الطبقي, ولكنها تختلف اختلافا جذريا عن أثرياء مرحلة صعود الرأسمالية فليس بينهم نموذج مثل روكفر الذي انفق في الثلاثينات 537 مليون دولار على أعمال البر, ولا نموذج مثل كارنيجي الذي ضاعف المكتبات الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية من ماله الخاص, فالنزوع الفردي التهم قيمة التطوع وأصبح المال الذي يتراكم بسرعة غير مسبوقة يسير في اتجاه واحد ولا يعود جزء منه الى المجتمع ليساعد غير القادرين, وهو اتجاه يهدد السلام الاجتماعي في هذه المجتمعات. اما أهم المفارقات فيتمثل في أن الغرب وهو يجرى مراجعة لهذه القضايا يدفع روسيا دفعاً لتبني اكثر السياسات الاقتصادية تحرراً, ويجد في النخبة الروسية من يدعو لهذه الأفكار ويروج لها وهو تبادل مواقع يشبه القصة الواردة في بداية المقال, وعلى صعيد عالمنا العربي من المهم النظر الى هذه التغيرات بعين الاهتمام في هذه المرحلة التي تشهد اتجاها للقضاء على الدور الاقتصادي للدولة بشكل تام الأمر الذي يحتاج الى إعادة نظر على المستويين النظري والعملي, فها هي الخاطئة تتوب فيما نلهث نحن لنحتل مكانها.. باحث مصري*

Email