نافذة: اتقوا الفتنة: بقلم - عبدالله عبيد حسن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الانباء التي تنشر وتذاع عن مآسي اقليم بحر الغزال في جنوب السودان مفزعة .. بحر الغزال لم تعد ضحية للمجاعة البشعة التي نُشرت صور ضحاياها على شاشات وصحف العالم فحسب.. بحر الغزال تواجه الان (حرب ابادة) مخطط لها ويجري تنفيذها بدم بارد وتشارك فيها اطراف عديدة ستتحمل وزرها ومسؤولياتها التاريخية.. فمنذ الاسبوع الماضي بدأت تتسرب للعالم الخارجي انباء عن هجمات وحشية تقوم بها قوات الدفاع الشعبي الحكومية ويشارك فيها (الخيالة العرب) على قرى الدينكا في مناطق التماس بين اقليمي كردفان وبحر الغزال.. وقالت الانباء ان مئات النساء والشيوخ العجائز قد قتلوا حرقا داخل منازلهم (اكواخهم) وان الجثث ملقاة في الابار وطافية على النهر.. وان النساء الشابات والاطفال الذين وقعوا في الأسر قد نقلوا الى مدينة ابيي تحت سمع وبصر القوات الحكومية.. وقال موظفو الاغاثة الدولية ومتطوعون من منظمات مدنية اروبية فروا من تلك المناطق ان الهجمات الوحشية لم توفر شيئا على الارض فقد احرقت المنازل (الاكواخ) بساكنيها, وقتلت الفارين وسلبت ونهبت واستباحت قرى الدينكا على مدى اسبوع كامل.. وزادت ان (الخيالة العرب) كانوا يفاجئون السكان المدنيين في مجموعات تتكون من سبعين خيالا تخرج في جنح الظلام من الغابات القريبة فتحيل الليل نهارا بالحرائق التي تشعلها!! السلطة في الخرطوم لم تنكر الانباء, ولم تنفها, ولكن متحدثا عسكريا جمل وحسن الصورة فقال ان القوات المسلحة السودانية هاجمت خمس بلدات واستعادتها من ايدي المتمردين في اقليم بحر الغزال واوقعت في الاسر اعدادا من متمردي الحركة الشعبية لتحرير السودان!! لفائدة القارىء غير السوداني فان (الخيالة العرب) الذين صورتهم الانباء المنشورة والمذاعة عن الهجمات الوحشية التي شنوها على قرى الدينكا هم عرب البقارة (رعاة البقر). وقد صوروا وكأنهم الغزاة البيض الذين غزوا امريكا وابادوا سكانها الاصليين الهنود الحمر.. والدينكا هم احدى اكبر القبائل الافريقية واعرقها ومن بعض (بطونها) خرج د. جون قرنق والقاضي الفاضل ابيل الير والوزير الوحدوي سانتينودينج, والدينكا تاريخيا كانوا اكثر اهل الجنوب قربا الى اهل الشمال والصقهم علاقة بهم وقد كانوا اخر من انضم الى (التمرد) الذي بدأ في عام 1955 في مدينة توريت من اعمال اقليم الاستوائية.. وليتأمل القارىء الكريم مغزى ومعنى هذه المعلومة التاريخية الضائعة وسط ركام من المؤامرات السخيفة لتزييف التاريخ خدمة لاغراض السياسة!! ولقد مهدت السلطة لهذه الاحداث الدامية والمؤلمة بانباء مسبقة ونشرتها عن قيام المتمردين بنهب الاف من الابقار من قبيلة البقارة وعدوانهم على الرعاة الآمنين.. وواقع الامر ان التنازع على الماء والكلأ في مناطق التماس بين اقليمي كردفان وبحر الغزال موضوع تاريخي قديم موغل في القدم من قبل ان يولد (زعيم المتمردين) جون قرنق.. لكن هذا التنازع وما يخلقه من مشاكل بين القبائل كان يجري حله في (الزمن الطيب) على ايدي الحكماء من زعماء القبائل (سلطان الدينكا دينج الكبير وناظر البقارة بابو نمر ومن قبلهم الآباء والاجداد) في مجالس الصلح السنوية التي كانوا يعقدونها ويقيمون لها احتفالات ومهرجانات بهيجة, تعقد اثناءها الزيجات وتقام الافراح وتنهى الامور ليعود (التعايش السلمي) كما كان في مختلف العصور.. لكن الذي يجري الان وبتدبير وتخطيط من السلطة وحلفائها من قادة الفصائل الجنوبية المتمردة شيء بشع وشنيع لا يقبله اي ضمير سوداني عربي انساني.. فمنذ سنوات والسلطة تقوم بتجنيد وتسليح من استطاعت اغراءهم من ابنا, القبائل العربية بحجة الدفاع عن اهلهم ضد الدينكا الوثنيين, فبذرت في الارض بذرة فتنة ان لم نتقيها ستكون كارثة على ما تبقى من مستقبل التعايش السلمي في السودان.. وهي تحول نزاع قوم بسطاء من كلا الطرفين حول المرعى والماء الى فتنة تاريخية بين قبائل حققت على ارض الواقع معنى التعايش السلمي بين قبائل وشعوب هذا السودان, ووضعت نموذجا لما كان وينبغي ان يكون عليه الحال حفاظا ليس على وحدة السودان فحسب بل على انسانية السودانيين انفسهم قبل وحدتهم!! منذ سنوات وقبل خروجه من الخرطوم حذر السياسي الجنوبي المخضرم والبرلماني العتيق السيد اندرو ويو السلطة من لعبة تأليب القبائل العربية على جيرانهم واخوانهم الدينكا.. وحذر من سياسة توزيع السلاح ووضعه في ايد غير مسؤولة لان ذلك سيقود في نهاية الامر الى خلق صومال آخر في السودان وقال وقتها للحكام ان السياسة غير المسؤولة وغير الحكيمة التي توجه للانتقام من د. جون قرنق بترويع الدينكا ومحاولة ابادتهم ستؤدي الى انفراط الحال والى ان يفقد السودان الموحد (الذي يمثل موقف الدينكا الوحدوي ركنا اساسيا في حاضره ومستقبله.. لكن احد ا لم يستمع.. وها نحن الآن نجد انفسنا في وضع تتحول فيه الحرب الملعونة كل يوم الى شيء بشع وتصبح فيه صورة الخيالة العرب.. وهم يحرقون القرى بساكنيها ويسبون النساء والاطفال ولايكرمون حتى الموتى بدفنهم هي (النموذج الحضاري الذي تقدم به الجبهة القومية الاسلامية السودان الى العالم!! وهاهو (ملف الرق) يفتح مرة ثالثة امام المجتمع الدولي ويعرض السودانيين كتجار رقيق وحشيين ومتوحشين يبيعون الاطفال والنساء في اسواق ابيي.. ومع ذلك فحكام السودان يتباهون بان القوات المسلحة السودانية قد هاجمت المتمردين واستردت منهم خمس بلدات واسرت منهم كثيرين في اقليم بحر الغزال!! لقد بذرت الجبهة بذور الفتنة في السودان منذ لحظة استيلائها بالانقلاب العسكري على السلطة التي جاءتها وهي تحمل افكار قادتها المتخلفة وتصوراتهم البشعة ورؤيتهم اللاانسانية للبشر عموما وللجنوبيين خاصة.. ومن آسف فإن الذي دفع وسيدفع الثمن هو هذا السودان, وهو ثمن غال لن تعوضه اتفاقات نيروبي, ولن تمحو آثاره كل محاولاتنا الخيرة لاستعادة الانسانية السودانية والكرامة السودانية الا بنضال شديد وجهد عظيم, وعقل سديد في زمن افتقد فيه كثيرون العقل والحكمة.. لقد تنبهت المعارضة الديمقراطية للكارثة قبل وقوعها وحاولت تفاديها, فذهب الامين العام للتجمع الوطني الديمقراطي مبارك المهدي والقيادي البارز والوزير السابق بونا ملوال الى مناطق التماس وعقد اجتماعات مع زعماء القبائل على الجانبين وعقد صلحاً واتفاقا على الطريقة السودانية التاريخية.. لكن دعاة الفتنة الذين لا يكتر ثون في سبيل السلطة لاي قيم او مثل او اخلاق انسانية, كان تصميمهم على اشعال نيران الفتنة القبلية اقوى.. وهاهم والسودان معهم يدفع الثمن اليوم.. والسؤال اليوم اليس في الخرطوم عاقل يقول لهؤلاء المجانين اتقوا فتنة لا تصيبن.... ولا حول ولاقوة الا بالله العظيم كاتب سوداني*

Email