أمريكا واخفاقات السودان: بقلم - محمد الحسن أحمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد اصبح نظام الحكم في السودان يرد كل اخفاقاته الى الولايات المتحدة بشكل اساسي دون ان يشرح للعالم بشكل مقنع لماذا امريكا وراء اخفاقاته ؟ ... ولماذا يكون شغلها الشاغل التآمر على السودان دون ان تتمكن حتى الان من اسقاط النظام؟! في المبتدأ نود ان نقول ليس بوسعنا ان نتابع مقولات النظام منذ اوائل عهده بالحكم اي منذ ان رفع شعار (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع..) وامريكا لمي دجاجك وانما نكتفي بما ردده الاسبوع الماضي فقط مما قد يكشف الكثير والمثير من تآمر النظام على السودان ووحدته, وليس تآمر امريكا كما يدعي. في الاسبوع الماضي اتخذت مصر اجراءات اكثر تشددا في اذونات دخول السودانيين اليها وقد اطلق عليها اسم القوائم أ.وب. وج, ولعل الاذونات التي ترمز او تقع في الدائرة أ هم الاشقاء الذين يسمح بدخولهم, اما القائمة ب فانها تعني بين بين يمكن التدقيق في امرهم قبل ارجاعهم او الاذن لبعضهم بالدخول اما القائمة ج فيردون بذات الطائرات التي حملتهم من حيث أتو. ولعل التأشيرة ج تعني (جبهة) . ولقد اتخذت مصر هذا الاجراء كرد فعل لخيبة الامل التي اصيبت بها من خدعة النظام التي روج لها بعد قرار البشير اعادة الممتلكات المصرية التي كان النظام قد صادرها, ولما ذهب وفد مصري للخرطوم لاستلامها وجد من اللف والدوران ما اقنع مصر بعدم جدية النظام في اعادة الممتلكات, وعاد الوفد الى القاهرة خالي الوفاض, وبدلا من ان يعالج النظام هذه الخطيئة بالالتزام بحرفية قرار البشير او ان يصمت, كتبت صحيفة (الانباء) الرسمية مقالا افتتاحيا انتقدت فيه رد الفعل المصري وقالت: ان يقسم الشعب السوداني الى ثلاث فئات هي أ وب وج فهذا ما لا يراه الشعب السوداني لنفسه مع كامل الاحترام للسيادة المصرية على اراضيها, وقالت الصحيفة ولاحترامنا لانفسنا واحترامنا لمصر, ذلك الاحترام الذي نرجو الا تزحزحه المعاملة القاسية التي ينالها السودانيون اصحاب الفئتين ب. وج امام اصحاب الحظوة من الفئة أ من انتظار يطول لأكثر من 12 ساعة قد يتمخض عنها دخولهم الى مصر, او رجوعهم بالطائرة المغادرة الى السودان. وقال البشير في لقاء سياسي ببورتسودان ان تعزيز العلاقات الثنائية مع مصر لها أهمية قصوى ومن الضروري استمرار سياسات حسن الجوار واتهم البشير امريكا (بممارسة الضغوط على دول الجوار حتى لا تتحسن تلك العلاقات ما يعني ان مصر تعاني من ممارسة ضغوط امريكية للحيلولة دون تحسين العلاقات مع النظام كأن النظام لم يمارس هو لا امريكا ضغوطا باتجاه المزيد من التوتر في العلاقات. وفوق هذا وذاك فان اتهام مصر بالخضوع لما يسمى بالضغط الامريكي يعتبر اضافة فى مسالك تدهور العلاقات لان مصر لا تقبل من امريكا او غيرها ان تتدخل في ما تقرره من سياسات ناهيك من ان يمارس ضغطا عليها خاصة فيما يتعلق بعلاقاتها مع السودان. وماقاله البشير عن مصر بطريقة الغمز قاله بمنتهى الوضوح زعيم الاخوان في جريدة اخبار اليوم حيث كال هجوما بأقسى العبارات ضد مصر واتهم هو الاخر الولايات المتحدة بأنها وراء توتر العلاقات. ومن بورتسودان توجه البشير الى كسلا وخاطب جمعا جماهيريا فهاجم الحكومة الارتيرية التي قال: انها لا تمثل شعبها وانها حكومة خاضعة للدولار الامريكي, واتهم المعارضة السودانية التي تتخذ من اسمرا مقرا بأنها باعت نفسها للشيطان فضلا عن التركيز المتواصل في الهجوم على الدكتور جون قرنق بوصفه لا يمتلك قراره وان سيدته هي الولايات المتحدة وهي ممولته ومحرضته على رفض السلام, وحتى المؤسسات الاغاثية الانسانية تتهم على الدوام بأنها بجانب الاغذية تنقل اسلحة للمتمردين. وفي الاسبوع الماضي على وجه التحديد اتهم وزير التربية كبشور كوكو الذي هو من منطقة جبال النوبة الجمعيات الانسانية بأنها لا تظهر وتلح على تقديم المساعدات الا عندما يكون التمرد في حالة حصار في قمم الجبال لكي تنقل اليهم اسلحة وذخائر الى جانب المواد الغذائية والادوية واضاف: ان رفض المساعدات المقدمة من الحكومة لجماعات التمرد في جبال النوبة من قبل قائد التمرد يوسف كوة لا تفسير له الا انه يحرص على المساعدات الخارجية لانها لا تخضع لرقابة الحكومة ولكونها تشكل غطاء للحصول على الاسلحة تحت ستار المساعدات الانسانية. وقالت اليونايتد برس الاحد الماضي: (ان مسؤولا سودانيا رفيع المستوى اتهم قوى دولية لم يسمها بالوقوف في وجه محاولة تطبيع العلاقات مع مصر مشيرا الى ان مسؤولا غربيا زار القاهرة اخيرا لعب دورا في هذا الاتجاه) , واضاف: ان الضغوط التي تمارسها الحكومة المصرية حاليا على السودان بصدد تسوية الملفات العالقة بين البلدين ستؤدي الى اضفاء المزيد من التعقيدات, واكد ان السودان ملتزم بقرار الرئيس البشير بشأن النظر في اعادة اية ممتلكات مصرية الا ان ذلك لا يعني اعادتها بشكل تلقائي ودون اعتبار لمستجدات كثيرة يمكن التفاهم حولها بالتشاور ووضع المسائل الاجرائية والقانونية والادارية في الاعتبار, كما ادعت الصحف السودانية ان مصر قد صعدت من توتر الاوضاع في منطقة حلايب. وقبل ان نتحدث عن المزاعم حول المسؤول الغربي الذي زار القاهرة اخيرا نتوقف لحظة امام مغالطات هذا المسؤول الذي يدعى التزام السودان بقرار اعادة الممتلكات المصرية وفي ذات السياق يكشف عن نكوص الحكومة السودانية الجوفاء عندما يقول: ان القرار لا يعني الاعادة بشكل تلقائي ويتحدث عما يسميه بالمستجدات وغيرها, ولا شك ان عدم التلقائية في التسليم هو النكوص بعينه علما بأن مصر اعلنت موافقتها على دفع اي تحسينات ادخلت على تلك المباني, وهو امر ماكان ينبغي على الحكومة السوداينة ان تطالب به لوصدقت النيات فعلا, ناهيك عن الادعاء بأن هناك حرصا على عودة العلاقات التي سابق عهدها, او هناك ارهاصات لان جهات امريكية او غيرها ستتآمر لاحباط كل ما يعيد العلاقات الى مجراها الطبيعي. ونعود الى الحديث عن المسؤول الغربي الذي زار مصر مؤخرا حسب تعبير المسؤول السوداني, لا لنكرر ان مصر لا تسمح بالتدخل في السياسات التي تقررها, وانما لنكشف حسب معلومات متوافرة ان حكومة الخرطوم قد ابلغت الدول الغربية قبيل اجتماع نيروبي الاخير عزمها على التوصل الى اتفاق مع حركة قرنق ليقرر الجنوب مصيره ويشكل دولته المستقلة, وان الولايات المتحدة ترفض هذا الطرح ليس من باب الحرص على وحدة السودان وانما لقناعتها بأن نظام الخرطوم مراوغ ويفتقد لأية مصداقية وان الخطر على السودان وعلى المنطقة يكمن في النظام نفسه, ومع ذلك تتركز حملة النظام على الولايات المتحدة بحسبانها تتآمر على السودان وتتآمر على السلام وتحرض الجيران وتضغط على مصر وان ارتريا أصبحت عبدا للدولار. ولعل مما يؤكد عزم الحكومة على فصل جنوب السودان انها بدأت تدفع باتجاه فصل قضية جبال النوبة عن قضية الجنوب بهدف انهاء التحالف القائم بين العقيد يوسف كوة والعقيد جون قرنق لان هذا التحالف يرمز الى وحدة السودان ويضغط باتجاه تعزيز التوجهات الوحدوية في الحركة وهذا الضغط الذي اخذت تمارسه الحكومة علنا ينطلق من انها قد اتفقت مع قرنق على تقرير المصير للجنوب وبما ان جبال النوبة في الشمال وقائد تمردها وحدوي التوجه فينبغي ان يفض تحالفه مع قرنق ويدخل في مفاوضات منفصلة مع الحكومة! ولقد تحدث اللواء محمد عبد الكريم في مؤتمر صحفي في الخرطوم وقال (ان قضية جبال النوبة خرجت من طرح العقيد جون قرنق الذي وافق على مبدأ تقرير المصير لمناطق جنوب السودان, وان الحكومة السودانية ستتصل بيوسف كوة احد اركان الحركة الشعبية بوصفه ممثلا لجبال النوبة بهدف ضمه الى التوجه الهادف الى تحقيق عملية السلام لان (كوة) احد الملتزمين بوحدة السودان! ولا شك ان تعبير قضية جبال النوبة خرجت من اطار حركة قرنق يعني ان الجنوب تحدد مصيره بالانفصال علما بأن وجود جبال النوبة ضمن الحركة كان ولا يزال احد اكبر الضمانات التي تعني ان توجهات الحركة وحدوية وانها تسعى لقيام سودان جديد, ولا تفسير لهذه اللهفة من جانب الحكومة نحو ابناء جبال النوبة الا لتأكيد ان الجنوب مصيره الانفصال وان جبال النوبة وهي اصلا في الشمال ينبغي استعجال الترتيبات المتعلقة بالتفاهم معها بعيدا عن الجنوب الذي تحدد مصيره حتى لا تكون هناك رجعة عن فكرة فصل الجنوب. ومع ذلك فان هناك عدة سيناريوهات يمكن أخذها في الاعتبار يمكن أجمالها في الآتي: الاتفاق مع حركة قرنق على تقرير المصير يهدف الى تقسيم الحركة بانشقاق ابناء جبال النوبة عنهما مما يضعف الحركة من جهة ويرجح كفة المتطرفين الراغبين في فصل الجنوب. كذلك الاتفاق مع حركة قرنق على نحو ما تسير عليه الامور الآن في مباحثات ايجاد من شأنه ان يؤدي الى انسلاخ الحركة من التجمع الوطني الديمقراطي المعارض فتشتت المعارضة من جهة, وتنفصل قضية الجنوب من أطار وحدة قضايا حكم السودان من جهة اخرى. وهذان السيناريوهان يكسبان النظام فسحة من الوقت حتى يستعيد قواه من جديد ويأخذ كل جانب على انفراد, فيتفرغ للمعارضة حتى يتم سحقها كما يتصور, ومن ثم يلتفت الى الجنوب فينكص العهد ويعيده الى مرابط سلطانه وتسلطه ايضا بقوة السلاح كما يتوهم, ويأمل في ان الجنوبيين ستتقاتل قبائلهم حول قسمة السلطة. وبما أن كل الافتراضات واردة فيبقى أحسنها واضمنها هو عدم الالتفات الى اطروحات النظام وعدم أهماله, وانما الاستمرار في حشد القوى لمواجهته حتى ينحى او يتنحى. واذا كانت هذه الرؤى تتلاقى مع الرؤى الامريكية فلا غرابة ان يكون تركيز هجوم النظام ايضا على الولايات المتحدة لانها لم تربت على كتف النظام مرحبة بما همس به للغرب من عزم على فصل الجنوب, خاصة انه كان يظن انه بتفتيته لوحدة السودان يخدم الاستراتيجية الغربية وعلى الاخص الامريكية لانه لم يحسن قراءة العالم بعد نهاية الاتحاد السوفييتي ولن يتعلم من اخطائه طوال ما يقرب من عقد من الزمان في الحكم. كاتب وصحفي سوداني مقيم في لندن*

Email