نافذة: السودانيون وأمريكا: بقلم - عبدالله عبيد حسن

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعود اهتمام الولايات المتحدة الامريكية بالسودان, الى السنوات التي تلت قيام ثورة يوليو 1952 في مصر, وضمن جهودها لتأسيس علاقة ما مع النظام الجديد في مصر , وجدت الولايات المتحدة نفسها تدخل باب السودان من مدخل محاولاتها القيام بدور مساعد في تسوية العلاقات المصرية ــ البريطانية (مفاوضات الجلاء التي انتهت الى توقيع اتفاقية جمال ــ هيد عام 1953). فالولايات المتحدة الامريكية كانت الدولة الوحيدة التي اصبح لها (مبعوث) دائم في السودان مع بداية المرحلة الانتقالية التي بدأت في (الأول من مارس 1954). ويبدو ان الولايات المتحدة ــ وهي تستعد آنذاك لوراثة النفوذ البريطاني العتيق في المنطقة ــ كانت تضع المسألة السودانية في اطار علاقاتها مع النظام الجديد في مصر. كان وصول (المبعوث الامريكي) الأول الى الخرطوم حدثا جديدا على السياسة السودانية, والتي كانت حتى ذلك الحين تدور في محور دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا ــ ومصر). وكانت القوة العالمية البازغة تتلمس طريقها في السودان, بشيء من الحذر, مثلما كانت تتلمس طريقها في المنطقة كلها. وكان أول اختبار للسياسة الامريكية العلنية في السودان, عندما قدمت الادارة الامريكية (مشروع ايزنهاور للشرق الأوسط عام 1957), وكان السودان من بين البلدان التي حاولت تسويق وترويج المشروع لها, وقد بعثت بوفد حكومي كبير كان على رأسه نائب الرئيس الامريكي ــ آنذاك ــ ريتشارد نكسون, الذي تفاوض مع رئيس الحكومة الائتلافية السودانية عبدالله خليل, ففوجىء بمعارضة شديدة ورفض حاسم لمشروع ايزنهاور ليس من الشارع والبرلمان السوداني فحسب, بل من داخل صفوف الحكومة التي جاء يسوق لها المشروع قاده آنذاك نائب رئيس الوزراء, وزير الداخلية علي عبدالرحمن الأمين!! وكان الاختبار الثاني, والذي سيترك بصمات قوية على مسار التاريخ السياسي للسودان, هو (مشروع المعونة الامريكية) الذي تقدمت به الى الحكومة السودانية في مطلع العام ,1958 وقوبل بمعارضة ورفض كاد ان يطيح وقتها بائتلاف الحزبين الحاكمين (الأمة والشعب الديمقراطي), وأسس هذا الموقف لما سيليه من احداث جسام وصلت قمة تفاعلاتها في انقلاب 17 نوفمبر 1958. لقد ظل الاهتمام الامريكي بالسودان يتعاظم منذ انقلاب 17 نوفمبر عام ,1958 وبعض الدارسين للمسألة السودانية يرجع ذلك الى ان الرؤية الامريكية تجاه بلدان المنطقة والعالم الثالث عامة كانت تميل الى اعتماد الانظمة العسكرية المروضة حليفا جيدا يمكن التعامل معه بسهولة, وفي تقديري ان بعضا من ذلك لا يزال موجودا معه بسهولة في الرؤية الامريكية, وبلغت قمة الاهتمام الامريكي المتعاظم بالسودان ذروتها خلال حكم المشير جعفر نميري خاصة بعد الانقلاب الشيوعي في يوليو ,1971 وما تلاه من تطورات سياسية في السودان. خلال فترة حكم نميري كثفت الولايات المتحدة الامريكية وجودها السياسي والأمني والاقتصادي في السودان وبلغ نفوذها داخل أجهزة السلطة المستوى الذي كشفت قضية ترحيل الفلاشا (اليهود الاثيوبيين). ومنذ البداية كانت عين السياسة الامريكية على الجنوب, وصحيح ان اللاعب الاساسي في اتفاقية أديس أبابا بين نظام المشير جعفر نمير وحركة الأنانيا, الذي كان يتحرك بصورة قوية على مسرح المفاوضات, كان هو (مجلس الكنائس العالمي) لكن الصحيح ايضا ان الولايات المتحدة الامريكية كانت هنالك وهي التي شجعت (الرئيس) على السير قدما في طريق اتفاقية أديس أبابا, وكان المنطق الامريكي بسيطا ومقنعا للرئيس, فإذا كان السودان يحتاج الى التنمية والى الاستثمار الخارجي, فالطريق الى ذلك هو انهاء الحرب, لتتدفق الاستثمارات, وكان أول الغيث سيئة الحظ شركة شفرون العالمية !! ومنذ ذلك التاريخ ايضا ستظل الرؤية الاستراتيجية الامريكية للمسألة السودانية محكومة بنظرة ترى ان لب الصراع وجوهره في السودان هو صراع بين الشمال والجنوب وسيظل الامر كذلك رغم كل المستجدات التي وقعت على الساحة السودانية. من هنا لا يبدو غريبا هذا التباين الملحوظ بين موقف الغالبية العظمى من السودانيين (التجمع الوطني الديمقراطي) والموقف الامريكي تجاه حل الأزمة السودانية, طوال السنوات الماضية سعت الولايات المتحدة الامريكية بإلحاح واصرار شديدين لاقناع سلطة الانقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان بالتفاوض والوصول الى حل ثنائي. ان الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه كثير من (قادتنا) انهم رجحوا وزن العامل الخارجي في المسألة السودانية على العامل الداخلي وبالتالي انصب معظم جهدهم على الساحة الخارجية وطبيعي مع مثل نظرة كهذه ان يهولوا من الدور الامريكي المتوقع والمنتظر لحل المسألة, لقد بدأت السلطة الحاكمة مشوار تدويل القضية السودانية بعد اقل من عام من استيلائها على الحكم, ورغم كل المزايدات اللفظية عن رفضها للتدخل الاجنبي واتهامها لخصومها بالعمالة للولايات المتحدة, فالحقيقة المؤكدة انها كانت ولا تزال أول المهرولين السودانيين نحو الباب الامريكي, وان سعيها لاقناع الولايات المتحدة بأنها (الوحيدة) القادرة على الوصول الى تسوية مع الحركة الشعبية لم ينقطع حتى فى أشد لحظات التوتر الذي ساد علاقاتها بالولايات المتحدة الامريكية. والذاكرة السودانية لن تنسى ايضا ان مبادرة الايجاد نفسها قد جاءت بناء على طلب تقدمت به لقمة المنظمة الافريقية طالبة (تدخلها) لحل النزاع مع الحركة الشعبية. ورغم انني لا اعتقد ان قمة الايجاد التي ستعقد في نيروبي هذا الشهر ستخرج بنتائج تدفع الى الامام نحو حل على طريق المبادرة واعلان المبادىء, الا انني اعتقد ان علينا اجراء مراجعة شاملة للموقف كله, وان هذه المراجعة تبدأ من داخلنا قبل ان تبدأ عند الآخرين. مثل هذه المقالة لا تفي موضوعا مثل موضوع العلاقات الامريكية ــ السودانية حقه الكامل من البحث والدرس, لكنها يمكن ان تكون فاتحة لدراسات أوسع وأشمل وذلك ما قصدت.

Email