ملفات الصراع اليمني: بقلم - عبد الله سعد

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحتل قضية اغلاق ملفات الماضي في اليمن مكانة الصدارة من اهتمام القيادات الحزبية في السلطة والمعارضة منذ اكثر من شهر, وتبدو هي الشغل الشاغل للقاءات واجتماعات الوسط القيادي الحزبي والشخصيات السياسية الذين لا تشغلهم لقمة العيش ولا ازمات الغلاء والتعليم والصحة والكهرباء والمجاري, ولم تستطع الازمة حول العراق ان تخطف الضوء من قضية اغلاق الملفات وان كان التأثير باديا بشكل واضح, فارادة اتخاذ الموقف وبلورته إلى خطوات ملموسة تعتبر في يمن اليوم بحكم الغائب نتيجة اختلالات عميقة في قيم التعامل عند الحكام وقيادات الاحزاب اليمنية المعارضة والتابعة, الحقيقية والمنسوخة معا. قبل شهر تجددت دعوة الرئيس اليمني, ولثلاث مرات متتالية خلال شهر رمضان الماضي, ولم يتبلور حتى الآن الموقف الواضح حول ماهية هذه الملفات, لا عند السلطة, ولا عند احزاب المعارضة, ولا عند الرئيس اليمني نفسه, كم لم تتبلور حتى الآن الفترة الزمنية للصراع, والملفات التي يجب اغلاقها, فأول رد فعل جاء من قيادات اشتراكية, واصلاحية, ممثلة بجار الله عمر وسيف صائل (اشتراكي) وعبدالمجيد الزنداني (اصلاح) , لكنها كانت قاصرة, ومقتصرة على المطالبة بداية بايقاف الخطاب الاعلامي الرسمي, وانجرت بعض الكتابات في الصحافة الحزبية المعارضة وراء هذا المطلب, ما اضطر صحافة السلطة السير وراء هذه الكتابات, فتحولت قضية اغلاق الملفات إلى قضية اخرى توسع رقعة الخلاف, على ان المهم هنا ان كل الاحزاب المعارضة في الداخل والخارج رحبت بالدعوة إلى اغلاق الملفات, وفي الوقت نفسه لم يتقدم اي حزب بورقة مؤسسية تحدد ماهية الملفات, وما هي القضايا التي يجب اخضاعها للحوار, المؤتمر الشعبي (الحزب الحاكم) بادر (علنا) إلى تشكيل لجنة لحوار الاحزاب, وعلى اساس الاتفاق على وثيقة تسمى (ميثاق شرف) وعلى اهمية التزام الاحزاب بميثاق شرف فهي ليست القضية الاساسية, وان تردد في الوسط الشعبي القول ان الاحزاب بلا شرف, فذاك يبرره فقط القول (الناس على دين ملوكهم) , فأول رد فعل رافض لاغلاق الملفات جاء من حسين محمد عرب وزير الداخلية في تصريح ابرزته صحيفة الحزب الحاكم في صدر صفحاتها الاولى, ثم استدرك الامين العام المساعد للشؤون السياسية ومسؤول العلاقات الخارجية في الحزب الحاكم غلطة زميله ليعلن في الصحيفة نفسها ان الهدف الاساسي من الدعوة لاغلاق ملفات الماضي هو المشاركة الجماعية في صناعة القرار السياسي من قبل كافة القوى والفعاليات السياسية, وفي ذلك اشارة واضحة إلى تعديلات حكومية مقبلة, كعين صناعة الازمات في اليمن, تهرب من ملامسة القضايا وتتهرب من حقائق الواقع. واحسب ان دعوة الرئيس اليمني إلى اغلاق ملفات الماضي, وإلى التسامح جاءت نتاجا حتميا لصراع القوى واختلالاتها داخل السلطة نفسها, ولم تأت بناءا على ضغط من احزاب المعارضة في الداخل أو في الخارج, فتشكيلة السلطة ووزراء الحكومة تمثل اطراف صراع الماضي بكل تفصيلاته الخنفشارية, والصراع على السلطة في اليمن منذ نصف قرن افضى إلى حرمان الرؤساء على كثرتهم من الانتقال السلمي من كرسي السلطة إلى القبر, وحاليا باستثناء وزير أو اثنين فقط فكل الوزراء وكبار المسؤولين في رقابهم ذمة القتل أو التعذيب أو التنكيل, والحقيقة اليوم في اليمن ان الصراع اليمني ــ اليمني لم يعد صراعا على كرسي السلطة, بل هو صراع لبناء دولة يمنية حديثة, بمؤسساتها, واستقلالية سلطاتها, فقد حدث هذا التحول يوم توقيع (وثيقة العهد والاتفاق) الذي صادف العشرون من فبراير الجاري الذكرى الرابعة لتوقيعها .. فهي الوثيقة التي استطاعت أن تختزل في مجمل فصولها وبنودها جوهر المشكلة اليمنية, وتطلعات الشعب اليمني في الوحدة والديمقراطية والمساواة, وبناء الدولة اليمنية, ولأنها كذلك فقد اشتد أوار الأزمة حول تنفيذها, فالقوى الرئيسية لتوقيعها غرست بذرة المعوقات في مقدمة بنودها, وربطتها بقضايا مصلحية لا ترتقي الى جوهرها, وبالعموم فعلى سمو اهداف وجوهر الوثيقة فقد مثلت بالنسبة لاطراف الصراع هروبا إلى الإمام, بحيث اخفقت في تقديم برنامج تنفيذي لها, فاشتدت الأزمة, وضاقت صنعاء بسكانها الجدد, وضاقت اليمن من أهلها, فاندلعت الحرب اليمنية في ابريل 1994م, وانكسرت شوكة موازين القوى, وقبيل اندلاع الحرب كانت اكثر المفردات والمقولات في خطاب القيادة العليا في البلاد ممثلة بعلي عبد الله صالح وعلي سالم البيض, هي (ان اندلعت الحرب فلا منتصر فيها ولا مهزوم) , و(ان اندلعت الحرب فالمنتصر هو المهزوم) لكن الحرب اندلعت وقُبيلها كانت المقولات والدعوات الى التعقل والحكمة تغطي سماء بلاد اليمن اما العقل والحكمة فكانا اكثر غيابا حيث تتواجد الدبابات وحيث يُصنع القرار. ان الدعوة الى عودة الشخصيات القيادة الذي تضم القائمة الشهيرة (16-1) اقل اهمية من الدعوة الى الغاء المحاكمات اولاً, وتطبيق قرار العفو العام الشامل, وتبدو الدعوة إلى عودتهم اقل اهمية من الدعوة إلى خروج قائمة مماثلة عددا من الشخصيات المفسدة في السلطة والحكومة, فما يتصدر الحالتين اهمية عودة الكوادر والكفاءات اليمنية من المهجر الذين قذفت بهم جولات الصراع المتعاقبة خلال ثلاثة عقود, والذين ضاقت بهم المؤسسات والمرافق في الحكومة والدولة معاً, فكل جولات الصراع ونتائجها وذيولها دفع الشعب اليمني ضريبتها, وقدم الضحايا لها وكان ضحيتها, والشروع في بناء الدولة اليمنية الحديثة يتطلب تقديم السلطة التضحية, والمصالحة مع الوطن تتصدر بأهميتها تصالح ومصالحة اطراف صراع الماضي, فموازين القوى ومراكزها لاطراف صراع الماضي في اليمن لا تؤهلها لإعادة جولات في الصراع لاختلاف قضايا جوهرية في جرافيك الصراع نفسه. يبدو الرئيس اليمني علي عبد الله صالح اليوم بتكرار الدعوة إلى اغلاق ملفات الماضي مستوعباً لضرورات بناء الدولة اليمنية وحتمية ذلك في مسار الحفاظ على مكتسبات قدمتها دروس الصراع اليمني - اليمني, ومعطيات الواقع الذي يجعل من بعض الحقائق الإطار الواضح والمحدد لجملة من المهام, اهمها خطوات عملية للانتقال من المزايدة بشعارات الوحدة إلى بناء دولتها, وانتقال الديمقراطية من ديمقراطية (الأغلبية المريحة) الى ديمقراطية حل الخلافات, واستكمال مهام سيادة القانون, والمساواة بدءا بإصلاحات جذرية في القضاء اليمني واستقلاليته, واللامركزية, واحسب ان اليمن اليوم بحاجة إلى فتح ملفات الماضي وقراءتها واستيعابها الجمعي, فهي بوابة الإطلال على المستقبل, والحاجة في اليمن إلى إغلاق ملفات ممارسة الفساد والإفساد, وإن كانت الأحزاب اليمنية المعارضة تتسم بالقصور المؤسسي فتلك حالة الانعكاس الحتمي للغياب المؤسسي في الحكومة, والقول بأهمية شد الرحال لدخول القرن الحادي والعشرين, يقتضي بالضرورة الخروج أولاً من القرن العشرين.

Email