شهد بعض حوارات ربيع دمشق أو جزءاً منها

مقهى «الروضة» رمز ومكان واستراحة عابرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مقهى الروضة وسط العاصمة السوريّة دمشق، و بالقرب من البرلمان، تجتمع فعاليات المجتمع السياسي و الثقافي و الفني السوري، كمحطة ضرورية للقاء اليومي أو للقاءات الأولى بين أفراد هذا المجتمع، و لا تقتصر معرفة المقهى العريق على أبناء العاصمة بل تتعدى سمعته إلى كل مكان في سورية والدول المجاورة لاسيما العراق و لبنان كما هو حال مقاه عديدة ذات الصيت التاريخي سياسياً و ثقافياً في دمشق، كالنوفرة و الكمال والهافانا.

تأسس مقهى الروضة سنة 1937، على أنقاض سينما قديمة، تقارب مساحته الدونم أو ثمانمئة متر، و هو في شكله الحالي يبدو كبقايا لبيت شامي لاسيما ببركة صغيرة «نوفرة» تتوسطه، متوقفة عن العمل و بشجراته الأربع.

في ذاكرة الكثيرين ذكر مقهى الروضة يستدعي ذكر الثقافة و المثقفين، فمن مجلس الشاعر الراحل ممدوح عدوان اليومي، إلى الشاعر العراقي سعدي يوسف، و أدونيس الذي كان يعرّج إلى الروضة كلما جاء دمشق، و لن ننسى مظفر النواب الذي واظب على ارتياد المقهى حتى منعه المرض. إضافة لحضور الفنانين في المجال التلفزيوني فيه.

و لمقهى الروضة ذاكرة سياسية عبر شخصيات مرّت فيه و كان لها تأثير، و كانت تؤلّف وزارات، كما شهد بعض حوارات ربيع دمشق أو جزءاً منها على الأقل.

يُقسم المقهى إلى قسمين: داخلي، و آخر منحاز للشارع. يجلس في الأخير الشبان والرجال يعاقرون النرجيلة، ويجلس في القسم الداخلي المثقفين و المثقفات أو المهتمين بالشأن العام.

وغالباً ما تجد في قسم المقهى الداخلي الباحثين عن فرصة عمل في التلفزيون، لذلك ستجده مطمح وقِبلة عُشاق الشهرة من الفتيات و الشبان، إضافة للصحافيين و الكُتّاب والشعراء.

على طاولة ما، يجلس رجل ستيني يرتاد المقهى منذ ربع قرن، فهو محطته اليومية التي التي يلعب الطاولة فيها مع الأصحاب، في حين يظهر التعب على وجه أبو سمير الذي يعشق الجلوس في مقهى الروضة مع أصحابه ليتداولوا قضايا الحياة و الشؤون العامة. يقول: «بعد عودتي من غربة امتدت ثلاثين عاماً، اعتدت الجلوس هنا. أشعر أن شيئاً ينقصني إذا لم أجلس لساعة أو أكثر كل يوم »، و يصفه أبو سمير بأنه واسع و محترم، فهنا يجلس المثقفون و الفنانون و الأشخاص المهمون في المجتمع.

في المقهى مزيج من اللهجات و اللغات أحياناً، لأنه محطة للسياح والمسافرين إلى دمشق لزيارة وزارة ما، أو دائرة حكومية.

يفتح المقهى أبوابه منذ الثامنة صباحاً، و يستمر حتى ما بعد منتصف الليل. يقدم جميع أنواع المشروبات الساخنة و الباردة صيفاً شتاءً وترتفع أسعارها فيه، عكس المقاهي الأخرى، لكن لم يؤثر هذا على تدفّق الزبائن إليه.

في الروضة علامات فارقة، كالشجرة الكبيرة التي لا يبدو منها سوى الجذع الضخمة. و قد منعت ألواح التوتياء البلاستيكية أنظار رواد المقهى من رؤية جسدها الفارع، إضافة لشجرتين في ركن المصطبة و شجرة الميلاد التي وضعت في منتصف المقهى تحت الفتحة السماوية مباشرة تبرق بأضوائها الصغيرة في النهار كما في الليل.

أما العاملون المتنقلون بين الطاولات بحيوية كبيرة وسرعة، حاملين صواني تحتشد بالكؤوس، وثيابهم الأنيقة السوداء والبيضاء تدل على نظافة المكان.

وبعضهم صار صديقاً للزبائن لطول عهده في المقهى، فليس من النادر رؤية مجموعة من الزبائن تفتح حديثاً مع أحد العاملين القدماء وينتهي بضحكات عالية.

طاولات من الرخام السكري السوري، و كراسي الخيزران العزيزة التي تعتّقت بدفء أجساد الزبائن فصارت تشبه الأجساد و اللحم البشري أكثر مما تشبه جنسها الخشبي الخيزراني...

أخيرا، كان لا بد من تحسينات على المقهى، فتمّ عزل القسم الداخلي عن باقي مساحات المقهى فأصبح كمقهى منفصل عن الجسم الأساسي بنوافذ الألمنيوم.

في مقهى الروضة تجاهد شفّاطات من سحب الدخان و روائح المعسّل و التنباك... وفي عمق المشهد تقبع صورة ضخمة لساحة المرجة الدمشقية، وضعت في صدر المقهى، والمراوح المتوقفة عن العمل في الشتاء تجعل عمل الفتحة التي تتوسط المقهى «ارض الديار» مستحيلة فلا تستطيع حركة الهواء طرد كل الروائح و الأدخنة و الضجيج، و حملها إلى الأعلى، حيث يمضي كل خفيف...

يلعب الأصدقاء الطاولة وهم يدخنون النرجيلة ببراعة آلية، آخرون، بينهم شبان لا يتجاوزون الثامنة عشرة يلعبون الورق لعباً بريئاً.

وأمام الحشد الذكوري الصارخ تكافح بعض رائدات المقهى لاسيما من الجيل الجديد على إبقاء الراية النسوية خفّاقة، فالمصطبة التي كانت لها هوية«عائلية» تاريخياً أفسحت المجال كثيراً أمام التدفّق الذكوري بحيث تجاهد هذه «العائلات» كثيراً للبقاء و لو على شكل رمزي، حالها كحال النبتة الاستوائية وسط المقهى، التي لم يبق منها إلا بضع ورقات.

أكثر ما يلفت الانتباه في هذا المشهد المتنوع و الصاخب، لوحة صغيرة كتب عليها بخط عربي: «اللهم احفظ هذا البيت»، علّقت على حائط المصطبة، أجل هو بيت كبير جامع للسوريين و العراقيين، و لكل زائر لدمشق يريد فهم النبض السوري بتجلياته الثقافية و السياسية أو على الأقل بعناوينه الثقافية و الفنية .

Email