من جديد تقلب جزيرة صير بني ياس صفحات التاريخ لتكتب فيه سيرة جديدة، فالجزيرة التي ورد ذكرها في المصادر الأوروبية منذ العام 1590، تفتح للعالم موقعها الأثري كنيسة ودير صير بني ياس، الذي يعتبر أول موقع مسيحي يتم اكتشافه في دولة الإمارات.

والذي دشنه صباح أمس معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح. وأكد أهميته قائلاً: «لاقى الموقع اهتماماً كبيراً من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، نظراً لقيمته التراثية والثقافية العميقة، باعتباره دليلاً تاريخياً هاماً وجزءاً من التراث الحضاري للدولة».

وأضاف: «وجّه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بالحفاظ على الموقع وترميمه والعمل على تحسينه فور ظهور الدلائل الأولى على وجود آثار مسيحية في الجزيرة».

تنوع حضاري

والموقع الذي عملت على تجهيزه دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي لاستقبال الوفود السياحية والزوار، حضر تدشينه الرسمي محمد خليفة المبارك رئيس الدائرة، وسيف سعيد غباش وكيل دائرة الثقافة والسياحة، وجمع من الخبراء بالآثار والتراث والإعلاميين ورجال الدين، الذين رافقوا معالي الشيخ نهيان في جولته التي تفقد فيها الموقع.

وأكد في ختامها الدور الفعال للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في دعم عمليات التنقيب عن الآثار والدراسات والبحوث المتعلقة بالتاريخ والتراث.

وقال: «كان يرحّب بالبعثات الأثرية للتنقيب في الإمارة، إضافة إلى تأسيسه متحف العين قُبيل قيام الدولة. ليضم المكتشفات الأثرية لهذه البعثات وكل ما أسفرت عنه من قطع تاريخية». وأوضح: «هو ما يقدّم لنا دلالات ثقافية غنية على نمط حياة المجتمعات التي قطنت في المنطقة من قبلنا».

فهم التاريخ

وأضاف معاليه: «مكنتنا كنيسة ودير صير بني ياس من فهم تاريخنا القديم من منظور جديد، قائم على الفهم المعمق للتسامح، وقبول التنوع الإنساني والذي يركز على أهمية تبادل الحوار مع الثقافات الأخرى ومد جسور التواصل».

وتابع: «حيث يجسد الموقع أحد أعمق صور القبول بالآخر والتنوع الحضاري، وذلك بالتزامن مع عام التسامح، والذي انطلق هذا العام مع الزيارة التاريخية لقداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، للإمارات».

بدوره قال محمد خليفة المبارك، رئيس الدائرة: «إن حماية المواقع الأثرية مهمة كبيرة ذات تعقيدات وارتباطات عديدة تشمل صيانتها، وتهيئتها للعرض، وتفسيرها، وإدارتها بشكل عام». وأضاف: «تعد منصة الزوار الجديدة في موقع كنيسة ودير صير بني ياس من أحدث الإجراءات الوقائية التي تعكس خبرة الدائرة في مجال الحفاظ على التراث والتزامها بتحقيق حماية مستدامة وطويلة المدى للمواقع الأثرية».

تاريخ الموقع

خلال الجولة في الموقع يمكن التعرف على أجزاء الكنيسة والدير والتي تعود إلى القرن السابع والثامن الميلادي، وهي المهجع الشرقي الذي تم اكتشاف عدة غرف فيه، ويرجح أنها تشكل أحد المهاجع المتصلة بالكنيسة.

حيث كان يعيش الرهبان في الغرف الصغيرة منها والتي تحتوي على جدران وأرضيات مغطاة بالجصّ، وثم العثور على عدد قليل من المكتشفات في هذه الغرف، كما تم العثور على عدد كبير من عظام الأسماك وبقايا عدة أنواع من المخلوقات البحرية في المطبخ، بما يدل على نوعية النظام الغذائي لسكان الجزيرة.

قطع أثرية

ومن خلال قطع الآثار الأخرى المكتشفة يمكن التعرف على قصة سكان الدير الذين اعتمدوا بشكل أساسي على البحر في غذائهم وكانوا يصطادون الأسماك وغيرها من المخلوقات البحرية، بجانب تربية الأغنام والماعز. كما تدل آثار أخرى على تفاعل الجماعات المسيحية مع العالم المحيط برغم بساطة عيشها وانعزالها .

حيث تدل الأواني الفخارية والزجاجية وخاصة الثمين والمستورد منها، على التجارة عبر الخليج العربي وصولاً إلى الهند وكانت هذه التجارة مهمة اقتصادياً. وسمحت بالاتصال بالمجتمع المسيحي في الأوسع لجماعة الجزيرة، بينما يبين الختم المزين بنقش شجرة النخيل والعقرب مثالاً على الحلي المكتشفة في الموقع.

وتبين القصة التاريخية الخاصة بالموقع استمرار الازدهار حتى بعد انتشار الإسلام في المنطقة، من ضمن شبكات الاتصال المسيحي التي نشأت في منطقة الخليج أثناء الحقبة الإسلامية المبكرة، والتي مرّت بعدة مراحل خلال اكتشافها. إذ تم اكتشاف مباني الموقع عام 1992، تبعها العديد من أعمال التنقيب لاستكشاف المهاجع الشرقية والشمالية بالدير والكنيسة والسور المحيط والمنازل ذات الفناء.

وفي عام 1994 ثبت أن المخطط المعماري للموقع يعود لكنيسة، إذ عثر على أول صلبان مصنوعة من الجص. ولكن لم يتم تعريفها ككنيسة لعدم العثور على شكل الصلبان المميزة للكنيسة ضمن قطع الجص القليلة التي وجدت في الموقع والتي تحمل زخارف دقيقة.

وعُثر على مئات من البقايا الأثرية في الكنيسة والدير والمنازل القريبة والتي تعكس اعتماد السكان على البحر للحصول على الغذاء، بالإضافة إلى رعي الماشية والأغنام والماعز. ويشير الزجاج والسيراميك في الموقع إلى تجارة السكان الواسعة في هذه الفترة عبر الخليج العربي.

آثار باقية

يتمتع موقع كنيسة ودير صير بني ياس بأهمية استثنائية، لذلك تم إجراء التدخلات المقررة بعناية للحفاظ على الموقع منذ الانتهاء من أعمال التنقيب الأثري الأولى، حيث تم بناء منصة للزوار فوق الكنيسة عام 2010، بينما تم إعادة دفن معظم الدير.

وفي الفترة ما بين عامي 2015 و2016، استكملت إدارة البيئة التاريخية في دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، وضع خطة للحفاظ على موقع الكنيسة كجزء من خطة أوسع لإدارة الجزيرة بأكملها. وتعتبر هذه الخطة فرصة لجمع معلومات عن الموقع وتقييم حالته، بالإضافة إلى وضع سياسات لأعمال الحفر والأبحاث المستقبلية، وأعمال الترميم والإدارة والحفاظ على مظهر الموقع.

في عام 2018، شرعت دائرة الثقافة والسياحة في تصميم وتنفيذ حلول جديدة لحماية الموقع والتي من شأنها ضمان الحفاظ على البقايا الأثرية للموقع من المخاطر البيئية الحالية، والتقليل من التأثير البصري والمادي عليها، وكذلك تعزيز تجربة الزوار.

منصة الزوار

وتتحلى منصة الزوار بتصميم متخصص للغاية يتسم بالمرونة والقابلية للعكس بهدف توفير حماية فعّالة وشاملة ضد المطر والحرارة والرمال والرياح وتعشيش الطيور. وتتضمن نظام تصريف للمياه مع مسار مرتفع للمشاة تتخلله نقاط شرح تدعم فهم الزائر وتقديره لتفاصيل الموقع.

كما تم تصنيع وحدات التظليل الخاصة بالمنصة بسقف مصنوع من مادة التفلون، وهي مادة شديدة التحمل توفر الإضاءة الطبيعية ودخول الهواء، وتم تصميمها بحيث لا تسهل الرؤية على الزوار، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية توسيعها في المستقبل إذا تم العثور على اكتشافات جديدة حول الموقع، وتم أيضاً تزويد المنصة بإضاءة صناعية لاستقبال الجولات المسائية.

تشمل التحسينات الأخرى طريق وصول جديداً ذا تربة مستقرة صديقة للبيئة، وسياجاً جديداً لمنع دخول الحيوانات البرية والرمال، والذي تم تصميمه انسجاماً مع سائر الموقع.

من التاريخ

أشار تاجر المجوهرات الرحال كاسبارو بالبي من مدينة البندقية، إلى الجزيرة في العام 1590 باسم «صير بني ياست» ووصفها بأنها جزيرة يصيد الغواصون اللؤلؤ، كما ورد وصفها في الفنترة بين عشرينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر في سجلات ضباط البحرية البريطانية بالتفصيل أثناء مسحهم مياه الخليج العربي.