في شهادة إنسانية خاصة قدمتها بحق الشاعرة الراحلة

شيخة الجابري لـ«البيان»: «فتاة العرب» قامة أدبية عالية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن وقع خبر رحيل الشاعرة الإماراتية الكبيرة عوشة بنت خليفة هيناً على أهل الثقافة والأدب، فقد شكّل مساحة واسعة للمبدعين والأدباء للتعبير عن تلك القامة الأدبية التي عز نظيرها، وفتح الباب على مصراعيه أمامهم للإدلاء بدلائهم في توثيق تلك السيرة العطرة التي استظلت بواحات العين الغنية آخذة من نسائمها ألطف المعاني والأشعار، لتترك في خزانة الأدب الإماراتي الشعبي كنوزاً لا تقدر بثمن، ولتصبح حياتها مشكاة مضيئة تنير الدرب أمام كل امرأة تطمح إلى العلا والمجد، ناطقة بلسان حالها: تلك نتاجاتي في زمن خفتت فيه الأصوات النسوية، فأين أصواتكن اليوم؟ في حوارنا هذا مع الشاعرة والباحثة والكاتبة الإماراتية شيخة محمد الجابري نقف معها على هامش غياب شاعرة الإمارات الكبيرة، لنأخذ منها شهادة من عاين وشاهد وخبر تلك القامة، بحسها الإنساني الخالص، ولتسلط لنا الضوء على ما لا نعلمه عن المرأة التي «ابتلعت قمراً، وتنفست إبداعاً».

 

رحيل

في بداية هذا اللقاء نقدم لك خالص العزاء في وفاة الشاعرة الكبيرة عوشة بنت خليفة.

العزاء للإمارات في الفقيدة، شاعرتها الكبيرة عوشة بنت خليفة، نعم العزاء للإمارات ولعموم آل السويدي والحبتور الكرام، ولنا جميعاً، ولكل الأجيال التي استلهمت مشاعرها، ونضّدت عواطفها، وهذّبت مسامعها على صوت وقصيدة الراحلة الكبيرة «أمنّا الروحية» الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي، تلك الشخصية الفريدة المتفردة في مجالها، التي انداحت لها القوافي، واندس نصف القمر في فمها، ونصفه الآخر أخذها معه ليلة الرحيل المر والموجع.

 

مكانة

هل يدق الراحلـــون ناقوس الخطر؟ أعني أن ما خلفته -رحمها الله- وما خلفه كبار شعرائنا في أعمالهم كثير وكبير، وهو ما لم يوثق له بالنقد والتــــحليل، فهل يخشى أن يخل ذلك بالتوازن بين ما هو موجود مـــن إنتاج إبداعي ومن إرث ثقافي، وبين ما يقدَّم إلى الـــقارئ بمنهجية تليق به؟

ليس الراحلون وحدهم الذين يدقون ناقوس الخطر، بل الأحياء الباقون على الأرض ويتنفسون الكلمة؛ إن شعراً أم قصة أم رواية، أياً كان شكل إبداعهم هم غائبون عن النقد لعدم وجود حركة نقدية تواكب هذا الإنتاج الغزير الذي تدفع به المطابع وشبكات الإنترنت بشكل غير منقطع، وشاعرتنا الغالية «فتاة العرب»، رحمة الله عليها، هي واحدة ممن تنفسوا الكلمات حتى ملأ صيتها الآفاق، وجاء الانتشار ليس من خلال قراءات نقدية، ولكن من خلال الاشتغال الحقيقي على القصيدة وإيصالها إلى المتلقي من خلال التسجيلات الصوتية التي سبقت فيها عوشة بنت خليفة كل الأصوات النسائية التي نعرفها، فقد حرّكت المياه الراكدة واستطاعت أن تحجز لنفسها موقـــع الصدارة الذي لم يصل إليه غيرها، كما أنها ومن خلال مساجلاتها الشعرية مع الراحل الكبير القائد المؤسس المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه اللـــه، وعدد من الشعراء الآخرين؛ استطاعت أن تصل إلى مســـاحات أوسع امـــتدت إلى خـــارج نطاق الدولة.


رواد

الراحلة ميزت نفسها كشاعرة استثنائية وإنسانة فاعلة متحدية ظرف واقعها كأنثى، كيف؟

جاء ذلك من خلال حضورها الشعري الطاغي الذي لامس ذائقة محبيها ومتابعيها، ذلك أن قصيدة عوشة بنت خليفة هي السهل الممتنع الذي يستطيع الكثيرون فهمه واستيعابه رغم الإيغال العميق في المحلية، وفي المفردات الفصيحة أحياناً، التي تتناثر في نصوصها، إلا أنها كانت مؤثرة جداً، وحاضرة بقوة لم تتسنَّ لسواها، فقد اشتغلت على الشعر بوعي تام به. وبثقافة واسعة من خلال اطلاعها وإعجابها بشعراء كبار أثروا الأدب بمنتجهم المتفرد كالمتنبي، وعلى الصعيد العامي أو الشعبي الماجدي بن ظاهر، وراشد الخلاوي وغيرهم كثير.

وما يجدر ذكره هنا أن عوشة بنت خليفة قد أرضعتها الشاعرة الراحلة عفراء بنت سيف المزروعي، المولودة في 1905 بحسب عدد من المصادر المكتوبة والشفهية، وقد يكون ذلك أحد أسباب بروز موهبتها الشعرية مبكراً، وكما يذكر أحد الرواة فإن عوشة بنت خليفة قامت بمجاراة قصيدة عفراء بنت سيف الشهيرة «يا زين حبّك داخل الروح - في مهجتي ما بين لَرواح».

 

رقي الخطاب

ما الذي كان يجمعك بعوشة بنت خليفة، هل هو الشعر، المنبت (العين) أم أشياء تخفى علينا نحن القرّاء عن المرأة المبدعة في هذا المكان؟

الذي يجمعني بالراحلة الكبيرة هو الشعر، فأنا أعتبرها مدرسة فريدة في عطائها نهلنا منها أعذب القول، وتعلّمنا كيف يمكن للشاعرة أن تكون حاضرة بعاطفتها ومشاعرها وهي في كامل أناقتها الشعرية التي تتسم بالأدب، وسمو الخطاب في الموضوع وفي المفردة المستخدمة، وكيف تكون رفيعة الخلق واثقة الفكرة تتعامل مع قصيدتها بحب ووقار، وقد تشرّفت بلقائها في نهاية الثمانينيات تقريباً، وتقديم الأصبوحة الشعرية التي أحيتها في جامعة الإمارات آنذاك، والتي نجحت نجاحاً قد لا يتكرر لغيرها؛ فقد حضر هذه الأصبوحة ما يزيد على الألف طالبة من طالبات الجامعة، وفيها قرَأت أعذب قصائدها، كما أنني تناولت تجربتها الشعرية في عدة مقالات نُشرت في صحف ومجلات محلية وخليجية.

أما المنبت، مدينة العين، فهي مدينة الجمال والإشعاع الأدبي المختلف؛ فقد ظهر في العين شعراء وشاعرات يُشار إليهم بالبنان، من أمثال الشعراء: حمد بن سهيل الكتبي، والراحل خليفة بن مترف، وسعيد بن هلال الظاهري، والشاعر محمد بن راشد الشامسي، وسعيد بن مهيلة، ومحمد بن نعمان الكعبي، ومن الشاعرات القدامى اللائي فيما أظن جايلنَ عوشة بنت خليفة: موزة بنت جمعة العميمي، التي أصدرنا لها ديواناً شعرياً عن طريق مركز زايد للتراث والتاريخ في أواخر التسعينيات، والشاعرة، عفراء بنت سيف المزروعي، ومن الجيل الجديد الذي عشِق قصيدة «فتاة العرب» الشاعرات: أنغام الخلود، وريانة العود، وليلى العامرية، وليالي، وونة ألم.. وغيرهن من الأسماء التي لا تحضرني الآن ولكنها كلها جيدة بل ومتميزة.

إن ما جمع عوشة بنت خليفة بالعين علاقات إنسانية نبيلة نسجتها بحكم صلة القرابة تارة، والمودة الخالصة تارة أخرى مع سيدات المجتمع اللائي اتفقن على قيمة ومكانة وأهمية التجربة الشعرية للراحلة الكبيرة.

 

تخوّف

قلت ذات مرة إنك ترين أن ما (كانت تخاف عليه عوشة بنت خليفة هو أن يساء توثيق شعرها، خاصة وأنها كتبت باللهجة العامية الإماراتية) هل ترين أنه يشكل خطورة، وكيف؟

هذا التخوف سمعته منها شخصياً، رحمها الله، وأسرّت إليّ به بعد أن سألتها عن ديوانها الشعري: لماذا تأخر كثيراً رغم عمق التجربة وثرائها؟ وكان ذلك بعد انتهاء أصبوحتها الشعرية في جامعة الإمارات، وأذكر أنني كنتُ أحملُ حقيبتها التي تحتوي على القصائد احتراماً لها وتقديراً، وخوفاً عليها من ثقلها وهي من نوع «السامسونايت» الخاصة بحفظ الأوراق والمستندات، وكانت سوداء اللون ومشهورة في تلك الأيام، فقالت لي: «ما أريد أنشر قصيدي لنّي أخاف على الشعر من الغلط في الطباعة وفي التشكيل لأن هذا الأمر بيغيّر المعنى المقصود من الكلمة». قلت لها: لكن هذا الأمر ضروري؛ فهناك متابعون ومحبون لشعرك، فقالت، رحمة الله عليها: «إن الديوان بينَ يدي وراجعت شيئاً منه، لكني لا أحبذ النشر للسبب اللي خبرتج عنه، وعسى خير إن شاء الله». هذه كانت قناعتها، غفر الله لها، خوفٌ على الشعر، وحرص على التجربة الشعرية، وعلى اسمها الذي ظهرت به متحدية كل القيود الاجتماعية آنذاك، واحتراماً لكل حرف نثرته ليستقر في قلوبنا ولم تُرد له أن يظهر للقارئ بغير ما تتمنى.

الشاعرة عوشة قدمت كذلك تجربة غنية بالمعرفة، والاطلاع على ما يجري من حولها، فما رأيك؟

إن تجربة عوشة بنت خليفة الشعرية الغنية بالمعرفة تختلف كثيراً عن تجارب حتى الشعراء الذكور؛ ففي قصيدة «فتاة العرب» تطلعات واستشرافات وفتوحات لغوية لم يلتقطها سواها، كانت ترى أبعد من القصيدة لذا تتجسد في أشعارها الجغرافيا والطبيعة والعاطفة النبيلة، ثقافتها شمولية وهي المولودة في 1920، ولا عجب أن نقرأ عندها مفردات مثل: «المريخ» في قولها «دونك العالم موطّايه /‏‏ وانت في المريخ معدودي»، وذكرها لنهري «سيحون وجيحون» وهما يقعان في بلاد ما وراء النهر، كما يتبلور تأثير البيئة في شعر عوشة بنت خليفة الذي تزاحمت فيه الحكمة مع الفلسفة وبُعد النظر، والتفرد في المفردة والطرح.

 

ولكن النقد يبدو قاصراً عن متابعة شعراء مثل عوشة بنت خليفة وحمد خليفة بوشهاب وكثيرين كما أسلفت، وإلى الآن نحن نحتفي بالنقد الانطباعي والصحفي، أليس كذلك؟

إن الحديث عن «قمر الشعر» الراحلة الكبيرة عوشة بنت خليفة لا يُختَصر في عدد من الحروف، ذلك أن تجربتها الثرّية والغنية والمتجددة والابتكارية في القوافي والمفردات تحتاج إلى دراسات فيّاضة يجب أن تصل إلى هذا الجيل ليدرك أن وطنه العظيم زاخر بعطاءات أبنائه في شتى المجالات. نحن كمجتمع وكمؤسسات ثقافية وكأدباء ومبدعين بحاجة إلى البحوث والدراسات والنقد الثقافي والإبداعي لكي ننهض إبداعياً وثقافياً، ولكي يستفيد أبناؤنا في المستقبل.

كما أنني أرى ما يمكن أن أسميه «ضرورة التكريم». أعتقد أنه قد آن الأوان لأن تقوم الجهات الرسمية التي تعنى بالثقافة بالدرجة الأولى، كوزارة الثقافة وتنمية المعرفة، بوضع آلية لتكريم المبدعين من أبناء الوطن وهم على قيد الحياة ويعيشون بيننا، وأتمنى على الوزارة أن تسعى بجدية نحو تسجيل اسم عوشة بنت خليفة ضمن الكنوز البشرية المسجلة في منظمة اليونسكو أسوة بالكثير من الأسماء في شتى المجالات، وأن لا تكتفي المؤسسات بالركض نحو البحث في سيرتها وما لم يُنشر من قصيدها للتنافس في معارض الكتب. إن عوشة بنت خليفة علمٌ من أعلام الأدب ويستحق أن يوضع في مكانته اللائقة به، كما هي مكانته في قلوبنا.

 

قلت في وداع الشاعرة عوشة، رحمها الله، أبياتاً تدل على ذلك التآلف والقرب بين المبدعين، هل تذكرين لنا شيئاً منها؟

مما قلتُهُ في وداعها هذه الأبيات:

يا عين هلّي الدمع يا عين هلّيه

                          على فراق أم الشّعر والمعاني

من عقبها قاف الفكر من يجدّيه

                         وصراي بيت الشعر قد صار فاني

 

مكانة كبيرة

لعل رثاء «أم الإمارات» سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية، رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة، حفظها الله، وهي ابنة مدينة العين كذلك، لعوشة بنت خليفة، الذي نُشر يوم الأحد (الموافق 29 يوليو 2018)، يؤكد المكانة الكبيرة التي تحظى بها شاعرة الإمارات الغالية على قلوب أبناء الوطن، بدءاً من قادتنا الكرام، حفظهم الله، الذين نعوها بعميق الحزن والتأثر والاتفاق على قيمتها الأدبية ومكانتها المحفورة في أعماق القلوب، وليس انتهاء بأصغر محب وعاشق لمنتجها الشعري الأخّاذ، فقد قالت «أم الإمارات» حفظها الله: «إن قصائد عوشة السويدي حملت أماني وتطلعات الأجيال، وترجمت معاني الألم والصبر على المكاره والصعاب، وإنها كانت رمزاً حياً للمرأة الإماراتية ولقضاياها الثابتة في الحضور والدور الريادي والتعليم والعمل، والمشاركة في بناء الوطن».

 

قراءات

صفحة غراء

كان لقصائد الراحلة الشاعرة عوشة بنت خليفة المغنّاة وتلك المنشورة في الصحف، وبالأخص صفحات الشعر الشعبي في صحيفة «البيان»، في حياة شاعر الإمارات الراحل حمد بوشهاب وغيرها من الوسائط الأخرى، دور كبير ومشهود في سعة وسرعة الانتشار الذي لم تواكبه قراءات نقدية حقيقية وعميقة، وتلك هي المشكلة الأزلية التي تعانيها الحركة الأدبية في الدولة، وفي دول الخليج كذلك دون استثناء.

 

إضاءة

قائمة طويلة من التكريمات والجوائز

شيخة الجابري خلال مشاركتها في إحدى الأمسيات الثقافية | أرشيفية

 

الشاعرة والإعلامية شيخة الجابري، تعمل مستشارة بمؤسسة التنمية الأسرية، وباحثة في مجال التراث. لها عمود أسبوعي في جريدة الخليج. حاصلة على تكريم خاص كرائدة من رواد الثقافة في دولة الإمارات، بمهرجان الشارقة للشعر الشعبي 2016، وحاصلة أيضاً على جائزة تريم عمران الصحافية للعمود الصحافي 2014، وعلى وسام قادة دول مجلس التعاون في الريادة الثقافية، في مجال الشعر، كما حظيت بتكريم خاص من مهرجان الجنادرية بوصفها من رائدات الثقافة في منطقة الخليج العربي.

Email