شوقي بزيع لـ«البيان»: كل شعر حقيقي هو دفاع عن الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حــل الشـاعر اللبــناني شـــوقي بــزيع ، ضيفاً على مؤسسة سلـــطان بن علي العـــويس، وفـــائزاً بجائزتها الثقافية في دورتها الخامسة عشر (2016 - 2017).

وبالتـــحديد في الحــقل الشعري وعن مجمل أعماله، فهو يعد من الجيل الثاني من الشعراء العرب في تجربتهـــم الشعرية العربية الحديثة، وقد أبدع الشاعر شوقي في هذا الإطار، بصدق إنساني عمـــيق وباتـــساع خياله، وثقافته التي نهلها من التراث العربي، ومن طبـــيعة الــــقرية بأبعادها الأسطورية، معتبرا ان كل شعر حقيقي هو دفاع عن الحياة ، وكان لنا معه هذا الحوار:

 

الآن بعد أن نشرت أعمالك الكاملة كلها وتم تتويجك بجائزة ســلطان بن علي العويس العربية في دورتها الخامسة عشر في حقل الشعر، فهل ثمة استثمار شــعري غني وجديد قادم في الأفق؟

لم أرغب بتسمية أعمالي الشعرية بالأعمال الكاملة، فالشعر دائماً مفتوح على النقصان، والكتابة لا تتم إلا في كنف ذلك الإحساس الدائم بأننا لن نصل أبداً إلى شاطئ ما، ولذلك صدر المجلدان الشعريان عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، قبل سنوات بعنوان الأعمال الشعرية فقط، ولدي ست مجموعات شعرية لم تصدر حتى الآن في مجلد ثالث، وبالمناسبة، لقد كتبت في إحــدى مجموعاتي قصيدة بعنوان الأعمال الكاملة وهي تحاول أن تشتغل على هذه العلاقة بين الحياة وبين الكتابة عنها، بما يعني أن كمال الكتابة مجاور لاكتمال الحــياة، وأن الموت وحده هو الذي يضع نقــطة الختام لأعمالنا الكاملة.

اختبار

استلمت جائزة العــويس للشــعر العربي، وقبلها حزت جوائز عديدة، وتبقى العويس هي إحدى أهم الجوائز العربية، وبالتالي فالوصـــول إليها صعب وهو اختبار وامتحان حقيقي لقدرة الشاعر على الإفلات من فخ الانتشاء بنفسه، لكنني بعد كل جائزة أكتب أفضل مما سبق، لأني لم أنظر مرة إلى الجوائز، بوصفها الخطوة الأخيرة على درب الشعر الشاق، ولا تكريساً لوجاهةٍ ما، ولكن هي نوع من المكافأة الرمزية والمعنوية للــشاعر على ما يكتب أو للمبدع بوجه عام، وبالتالي شكلت لي حافزاً دائماً على المزيد من العطاء والتــجدد، ووضعـــتني أمام شعور إضافي بالمسؤولية، لكي أكون جديراً بما نلته.

طقوس الكتابة

من الصدف الجيدة أن مجموعتي الأخيرة «الحياة كما لم تحدث» قد صدرت بعد الإعلان عن الجائزة بأيام قليلة، ولم أمتحن بعد المرحلة الجديدة، أي مرحلة ما بعد جائزة العويس، لأني أمر الآن بفترة صمت كما يحدث لي عادة بين مجموعة وأخرى.

فأنا طريقتي في الكتابة تتم على الشكل التالي: فحينما تنتابني عوار الكتابة وتصبح بروقها مثقلة بالمطر، وغيومها آهلة به، أسارع إلى المقهى الذي اعتدت أن أكتب فيه على شاطئ بيروت منذ أكثر من 30 عاماً، ثم أخلو بنفسي لمدة طويلة تتجاوز الستة أشهر، وقد تتمخض تلك العزلة عن ديوان كامل أو عن نصف ديوان على أن أعود للكتابة لفترة لاحقة، وقد تمر سنة أو سنتان دون أن أكتب شيئاً، أي أشعر بعد أن أفرغ من الديوان والذي يأتي حصيلة امتلاء كامل باللغة، وفي ظل ذلك الشعور بالامتلاء أفرغ كل مخزوني من المعاني ومن الصور ومن الأفكار، وأتحول إلى ما يشبه الشحنة الفارغة، تبدأ بعد ذلك فترة التخزين من جديد، وهو يتم عبر انخراط في الحياة من جهة، وعبر القراءة من جهة أخرى، ولاستعادة تلك الشحنة تحتاج إلى ما يقارب السنتين أحياناً، وفترة الصمت التي أعيشها الآن قد قضى عليها قرابة العام، وربما لن أكتب شيئاً إلا بعد عام آخر، لكن دون أن يكون هناك تصميم مسبق على الكتابة، فالكتابة تأتي من حيث لا ننتظرها، وفي كل مرة أغرق في الصمت أشعر بأنني قد فرغت تماماً وبأنني نضبت بشكل مطلق، وأحياناً أنظر إلى ما كتبته ولا أصدق أنني أنا بالذات من أنجز تلك القصائد.

لا أستطيع أن أولف جملة واحدة وأشعر بأنني خارج الشعر، لكن فجأة ودون سابق إنذار ينهال عليّ من الأخيلة ومن الشحنات العصبية المتلاحقة فأهرع إلى الورقة البيضاء منعاً لإصابتي من الاختناق.

مواد أولية

من الجميل أن تعيش وأنت متربع فوق هضاب تطل على جبلٍ وبحــرٍ وقرى وحدود... دلتك على أكثر التجارب حيـــوية، لتــقرأ أبسط البسيط من الأفكار وبكمية كبيرة من الأحاسيس، حدثنا عن كيفية جمعك لخــيوط الإيقاعات تلك؟

- هناك دائماً مواد أولية يتغذى منها الشعر ويحتاجها الشاعر في بناء قصيدته، لكن براعة الشاعر لا توفرها فقط تلك المواد الأولية التي يمكن أن تتاح لي ولسواي من سكان القرى والبلدان المنتشرة على مساحة العالم، وهناك جمالات موجودة في الطبيعة بوفرة وبشكل متفاوت السحر.

لكن ليس بالضرورة بأن يكون المكان الأجمل مصدراً للشعر، أنا أعتقد بأن جزءاً أساسياً من جمال العالم موجود في النص نفسه أو في العين أو في الطريقة التي نقارب ذلك الجمال، أي المسألة تتوقف على درجة موهبة الشاعر وما يأتيه من العالم الخارجي من رؤى ومشاهد وأضواء وظلمات، والأهم من كل ذلك، كيف لا نعيد الأشياء كما هي في الأصل، بحيث إن الشعر يتحول إلى مرايا عاكسة لما يأتيها من ضوء فالمرآة لا تضيف شيئاً.

وعلى الشعر أن يكون منارة بحد ذاته أي هو من يصدر الضوء حتى لو لم يتلقفه شيء آخر، فالشعراء بمعنى من المعاني يشبهون الأشجار ليس من جهة التصاقهم بالتراب الذي يولدون فيه، فبإمكانهم أن يكونوا رحالة ومغامرين، ولكن من حيث تحويل المواد الأولية التي يتلقونها من الواقع، إلى أشياء أخرى تماماً، فالشجرة تتغذى من الروث والمواد العضوية ولكنها تعيدها لنا على شكل ثمار، وفي الشعر نوع من التحويل ومن إعادة إنتاج الأشياء.

الانتماء إلى الريف

قلت يوماً: «هناك حيث ولدت، لم يكن ثمة ما يصد الريح أو المطر أو لهب الظهيرات، عن وجوه الناس وبراعم الزهور وجذوع الأشجار»... هل لنا أن نتجسس بعمق على تلك القرية المخفية في قلبك؟

أنا مدين في موهبتي وفي حساسيتي وفي لغتي إلى قريتي في الجنوب اللبناني التي تقع على مرتفع من الأرض يطل على مروحة واسعة من المشاهد والأماكن المتنوعة، فهي تطل على البحر المتوسط غرباً، وعلى جبل الشيخ شرقاً، وعلى حدود فلسطين الشمالية جنوباً، وعلى مشارف نهر الليطاني شمالاً.

لذلك كنت أتلقف كل ما يأتي من هذه الطبيعة الغنية من ضوء الشمس ومن تحولات الريح والمطر من تنوع المشاهد المحيطة بي، وتعاقب الفصول والعلاقة المفتوحة بين الأرض والسماء، لذا أعتقد أن معظم شعراء العالم ينتمون إلى الريف، فالريف هو الظهير الأهم للشاعريات الغنية، لأن الشاعر تحديداً يحتاج إلى ذلك الخزان الهائل من الأخيلة والرؤى التي يطلبها الشعر، يحتاج إلى تغذية الحواس بكل أشكال التفتح، وهذا ما حدث لي.

فمعظم أشواك الأرض تركت آثارها دماً على أصابعي، كنت أستقبل كل هبة نسيم وافدة، وكل حبة مطر، وهذه الطبيعة الفلاحية الزراعية لها تأثير كبير في تكويني، لذا قلت مراراً إذا كان النثر هو ابن المدن، فالشعر هو ريف الحياة الذي تطل عليه أبواب العمر الخلفية، حتى لو ذهبنا بعيداً إلى المدن والعواصم، ولكننا مشدودون دائماً يأتي من جهة مساقط رؤوسنا، فالحياة كروية كالأرض، والأماكن التي انطلقنا منها لا بد أن تكون أيضاً حتـــفنا وأماكن نهاياتنا عند أطراف العمر الأخيرة.

عزلة الكتابة

حين تأتيك القصيدة أثناء ولادتها المتجددة، هل تذهب فوراً إلى غرفة منعزلة، أم يجب أن تكون ثمة نوافذ عالية؟

لا أكتب في غرفة منعزلة منذ ديواني الأول وحتى الأخير، فما زلت أكتب في نفس المقهى وذات الطاولة على شاطئ الروشة ببيروت، مقهى «دبيبو» وأنا هناك أستغرق تماماً فلا أشعر بشيء أو بأحد، ولا أسمع أحداً، فثمة عزلة كاملة أعيشها وأستغرق في داخلها، كما لو أنني وسط ظلام شامل لا تضاء فيه سوى أنوار اللغة ذاتها.

كيف ترى الترجمة في الشعر؟ وهل تقرأ الشعر المترجم؟

القول عن الترجمة بوصفها خيانة للنص الأول، لا يلغي أبداً بأنها الخيانة الضرورية، التي لا بد منها للوصول إلى المعرفة، وليس لأحد منا أن يتقن كل لغات العالم، ولذلك فهي ممر إجباري نحو المعرفة من جهة ونحو التواصل بين الثقافات من جهة ثانية، ونحن نعرف بأن الذرى الحضارية التي بلغتها الشعوب كانت تترافق دائماً مع انفتاح الشعوب بعضها على بعض، ويشهد على ذلك ويؤكده عصر المأمون عند العرب على سبيل المثال.

أستطيع أن أقول مع «خيانة» الترجمة ضد «وفاء» الجهل.

النقد

هل تعتقد بأن الشعر العربي اليوم أكثر استفزازاً وجرأة؟ فلدينا اليوم الكثير من الشعراء في العالم العربي، ويأخذون بالتزايد يوماً بعد يوم... حتى أصبحت كلمة شاعر تضيق وتهبط وتهدر، وكأنها إلى زوال، فما رأيك بما يحدث؟

فكرة الشعر عرضة للتسيب وانعدام اليقين كما هي الحال في عصرنا هذا وكل العصور السابقة، فقد كان هناك منتحلو الصفة ونظامون لا يتقنون سوى العروض فقط وبلا أية قيمة حقيقية، إلى يومنا هذا من يملك المال يطبع ديواناً أو ينشرون في مواقع التواصل أياً كان نوعه من الشعر السيئ... في نهاية المطاف أنا لست متشائماً، فلكي نحصل على التبر أو على غبار الذهب، ثمة مناجم كثيرة ومليئة بالأتربة والوحول، والتي تقتضي غربلتها لنحصل على القليل من الذهب، وهذا ينطبق على الإبداع بشكل عام.

وصحيح أن النقد يعاني اليوم قصوراً في مواكبته لحركة الشعر، ولكن الزمن يتكفل بسرعة بالتمييز بين الشاعر وغير الشاعر، وآلاف الأسماء التي تطفو على سطح المرحلة لا بد أن تنطفئ خلال فترة وجيزة، ولا يبقى سوى الحقيقي والأصيل في النهاية.

الغاية والوسيلة

قبل نصف قرن كان العرب يقلدون الفكر الليبرالي والإنساني الموجود في الغرب، ولم يعد موجوداً الآن، بل أصبح وسيلة لشرح الاستراتيجيات الوهمية، كيف ترى شاعريتك السلطة بين كل هذا؟ خاصة أنك وطوال حياتك عشت في زمن السياسة المضطربة، فكيف استطعت أن تختصر هذا الواقع الدموي في شعرك الإنساني؟

الشاعر هو شاعر بمعزل عن الواقع المحيط به، وبذور الموهبة تنمو في داخله بشكل غير متصل بما سيعيشه فيما بعد من أحداث، والشاعر الحقيقي يتميز في مقاربته للأحداث التي يعيشها، لأن الحدث نفسه يمكن أن يعيشه عشرة شعراء دون أن يُحدث تماثلاً في نصوصهم.

الشعراء العاديون أو قليلو الموهبة يمرون دائماً على سطح الأشياء ويصفونها وصفاً خارجياً، بينما الشاعر الحقيقي يعيد صياغة الحدث، ويرى إليه لا بوصفه لحظة منقطة ومنبتة عن المستقبل بل بوصفها إشارة عميقة إلى ذلك الحراك الإنساني الذي يعتمل داخل المجتمع، لذلك كل شعر حقيقي هو وعود كبرى وانتصار لمعنى الإنسان والكرامة والحرية والعدالة.

فكل شعر حقيقي هو دفاع عن الحياة، ونقيض للموت، وتقويض لمفهومه، وبهذا المعنى يتفاعل الشاعر مع السياسة لا ضمن شروط السياسة، بل ضمن شروط الشعر، لأن السياسة لا تتناول هنا بوصفها مادة للوصول إلى السلطة كما يفعل السياسيون، وليس تكتيكاً عابراً هدفه الربح والتسلق، والشعر لا يتبع سياسة ميكافيلي.

ففي الشعر الغاية والوسيلة هما أمر واحد، فالشعر يعمل على خط الخلود والديمومة، لذلك الشعر العظيم لا يفنى، بمعنى أن كل أولئك الذين تسلقوا على القضايا الكبرى سقطوا بسقوط هذه القضايا، وهنا أيضاً يمكن أن أقول بأن الأخلاق في الشعر غيرها في الواقع الاجتماعي، فلا يكفي أن يكون الشاعر ملتزماً بأخلاقيات ومثل ما لكي يكون شاعراً حقيقياً، ولا العكس هو الصحيح، برأيي أن كل شاعر حقيقي هو شاعر ذو أخلاق، وكل شاعر بائس أو منتحل صفة هو شاعر غير ذي أخلاق، بالمعنى الإبداعي للكلمة.

نبذة عن الشاعر

الشاعر اللبناني شوقي بزيع من مواليد 1951م ينتمي إلى مدينة صور اللبنانية التاريخية العريقة، تخرج في الجامعة اللبنانية عام 1973م ومتخصص في أدب اللغة الفرنسية، وقد عمل في سلك التدريس وعمل في الصحافة الثقافية وأعد برامج إذاعية وتلفزيونية... كتب الشعر الفصيح وبرع فيه، وله دواوين عديدة نشرها متجزئة، ومن ثم في أعماله الشعرية الكاملة وفي جزأين.

الطبيعة هي النسيج الذي تتغذى منه قصيدتي

يقول الشاعر شوقي بزيع: إن الطبيعة لم تكن موضوعاً مباشراً لشعري، فهي خلفية للغة وهي النسيج الذي تتغذى منه قصيدتي، حيث تنتشر أنواع كثيرة من الأشجار والنباتات والزهور والروائح، ففي داخل الشاعر قرية خفية ربما تكون مختلفة عن قريته في الواقع.

وقد فكرت يوماً بأني لو عشت في قريتي الحقيقية في الجنوب اللبناني لما استطعت أن أحولها إلى شعر لأنني كنت سأغرق تفاصيلها من واجبات اجتماعية وعلاقات عائلية وهمومها ومشاكلها، وكان لا بد أن أبتعد باتجاه الشمال كي أسترد تلك القرية المخفية التي ذكرتِها في قلبي الأشبه بالأسطورة المطلة على الخرافة، وقرية الأحلام والتي لا تستنزف نفسها، بل تتجدد مع كل قصيدة أكتبها.

الإيقاع البصري وتواتر الكلمات

يتحدث بزيع عن الكتابة الشعرية قائلاً : هناك إيقاع بصري أحياناً بمعنى أنه متولد عن علاقة الصور بعضها ببعض، وهناك إيقاع نفسي له علاقة تواتر الكلمات ونبضها وبعصبها، والشاعر بشكل جوهري عبارة عن عصب، فحتى لو كان شعراء معينون يكتبون على بحر إياه مثلاً، لكنْ كل منهم يعيد إنتاج البحر بشكل مختلف.

دفـــع اللغة إلى حدود تخومها الأخيرة

يرى شوقي بزيع أن الطبيعة تعكس إيقاعاتها في داخلي، التي تبدو أحيــاناً بطـــيئة ذات طابع شجي إذا تعـــلق الأمر بالتذكر والاسترجاع وشجن الماضي، وأحياناً كثيرة يبدو هـــناك شيء من العصف داخـــل الإيقاع، ويبدو العصب العالي ودفـــع اللغة إلى حدود تخومها الأخيرة، وهذا ما يحدث في الطبيعة، حيث إن الأشياء تتــراوح ما بين بطء النسيم الخفيف، وبين ضراوة العواصف والعواصف، مثل الإنسان الذي هو مزيج بين هذين الاثنين. وعن الريف يقول بزيع: الريف هو الظهير الأهم للشاعريات الغنية، لأن الشاعر تحديداً يحتاج إلى ذلك الخزان الهائل من الأخيلة والرؤى التي يطلبها الشعر.

Email