التراث البحري في الإمارات

بين الكتاب المسطور والحدث المنظور 2-1

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعدّ التراث البحريّ في الإمارات أحد أهمّ مكوّنات الموروث الشّعبيّ الإماراتي، نظراً لما يمثّله البحر من امتدادات عميقة ومتجذّرة ومتشعّبة في مجتمع الإمارات، بحيث أصبح البحر وتراثه ضمن تقاليد وعادات أهل الإمارات سواء كانوا من القاطنين على السواحل أو المقيمين في مناطق البادية.

اندماج وتوافق

ومن عجائب الأمور أنّ أهالي البادية من أهل الإمارات كان لهم نصيب وافر من العمل في مهن وحِرَف البحر. وبالتالي، حصل اندماج بين فئتَي المجتمع منذ القِدم، وتلاشت الفوارق الاجتماعيّة والاقتصاديّة بين البادية والمنطقة الساحليّة في الإمارات. وترتّب على ذلك ظهور مصطلحات وتعابير وألفاظ وتراكيب وأعمال عرفها كلّ أهالي الإمارات في كلّ بيئاتهم.

كتابة وتأليف

جرت محاولات علميّة في الكتابة عن التراث البحريّ الإماراتيّ، وفي هذه الإصدارات قدّم كتّابها معلومات حول هذا التراث وأثره في المجتمع، وطريقة تعامل المجتمع معه، وكيفيّة تعاطي معانيه، وكيفيّة فهم ألفاظها خاصّة مع تغيّر الأوضاع الاقتصاديّة، وحدوث عدد من التحوّلات الاجتماعيّة في المجتمع وفي بنيته، وإقبال الأجيال النّاشئة على مصادر إخباريّة وعلميّة مختلفة.

ومن هنا قام عدد من المؤلّفين المواطنين بإصدار عدد من الكتب تجمع وتدوّن وتسجّل ما له بالتراث البحريّ الإماراتيّ. وهي جهود مشكورة ومقدَّرة، ترفد بلا شك الجانب العلمي والثقافي والتراثي في الدولة.

بين أهل الإمارات وبين البحر

من الجدير بالذِّكر أنّ الارتباط بين أهل الإمارات وبين البحر قديم قِدم وجود الإنسان في هذه المنطقة، فقد تعامل مع البحر كلّ مَن أقام على السواحل وعمّر المدن، وأنشأ الموانئ، وشيّد المرافئ، وركب البحر، سفراً وصيداً وغوصاً وتواصلاً وتجارة وتبادلاً.

وتدلّ الآثار الكثيرة في المواقع العديدة المكتشفة على أرض الدولة على كلّ هذا النّشاط الكبير بين الإنسان وبين البيئة، بين الهمّة العالية للقاطنين على هذه الأرض وبين الأسفار والارتحال، وبين طبيعة هؤلاء النّاس وبين حياة السواحل والعيشة عليها. وفي الوقت نفسه فإنّ هذه الحياة المتفاعلة شملت أهالي السواحل وقاطني البوادي ممّا ترتّب عليه حدوث ازدهار اقتصاديّ كبير استفادت منه كلّ منطقة الخليج العربي.

وبناء على هذا التجذّر والتأصّل تخلّفتْ عبر الأزمان والأجيال العديد من مصطلحات البحر، وألفاظ السواحل، وتراكيب الأسفار، وتعابير المتاجرة، وأخبار الصيد، وأحاديث الغوص ممّا شكّل بُعداً تاريخيّاً عميقاً انعكستْ آثاره الإيجابيّة على أهل الإمارات وتراثهم البحريّ الذي لا يزال تدور كلّ معانيه في المجتمع وبين أفراد الجيل الواحد.

جوانب متنوعة

إن التراث البحريّ لا يتمثّل فقط في المعاني والألفاظ والتفسيرات والمصطلحات، وإنّما يشمل ذلك الجانب العمليّ بما يتعلّق بتنفيذ كلّ ما له علاقة بالبحر، وخاصّة فيما يتعلّق بصيد الأسماك، وطرق صيدها، ووسائل وأساليب صيدها، وطريقة تجفيفها وتمليحها، والعناية بها بل يتعدّى ذلك إلى طبخها وأكلها ووجبات تناولها.

كما يشمل الغوص على اللؤلؤ بميدانه الفسيح وآلاته وأدواته وأعماله وأوقاته ومواسمه وهيراته ومراكبه وطواقمه، وكلّ ما يتمّ من أعمال على ظهور سفن الغوص.

ومن ضمن ذلك كذلك صناعة السفن..وتراث الأسفار وما يندرج تحته من تواصل مع المحيط الخليجي، ومع المحيط العالَمي..وغير هذا الكثير.ويندرج ضمن هذا الإرث العظيم تلك الحكايات والقصص والخراريف التي ربطت عالَم البحر بعالَم البرّ، وعالَم الغيب بعالَم الشّهادة، وعالَم الخيال بعالَم الواقع، وعالَم الحقيقة بعالَم الخرافة، وعالَم الروح بعالَم الجسد.

ويتبع ذلك ما ترنّم ودندن به أهل البحر من أهازيج ومواويل ونهمات وأغانٍ وآهلّه، ورقصات وأداء فنّيّ متنوّع. ومن هنا يتألّق التراث البحريّ ويزهو ويسمو ويعلو، ومن هنا تحتّم علينا جمعه وتدوينه وتسجيله وتحليله وتفسيره وتعليله وتبويبه وتصنيفه حينها يسهل تقديمه للقرّاء، بقالب العصر، مع الحفاظ على روح الماضي، وتجلّيات التراث.

وهذا كلّه يسهل جمعه من خلال جهات حكوميّة وهيئات ومعاهد علميّة تتولّى رعاية الباحثين، وتتبنّى المتخصّصين، وتدعم الدارسين وسوف ينتج عن ذلك كلّه موسوعة التراث البحريّ الإماراتيّ بميادينه المختلفة، ومجالاته المتعدّدة.

روّاد

وممّا لا شكّ فيه فإنّ جهود باحثين مبدعين من أمثال الأستاذ جمعة بن ثالث، والأستاذ عبدالله عبدالرحمن، والدكتور عبدالله الطابور، والدكتور فالح حنظل، والدكتور غسّان الحسن، إضافة إلى إصدارات الوالد ناصر بن حسن الكاس، وغيرهم لن تضيع سدى فهي جهود عظيمة ورائعة، ستكون اللّبِنة الأولى ضمن هذه الموسوعة المتميّزة الحاوية الشاملة.

وفي حقيقة الأمر، إنّ كلّ ما أُصدر حتى الآن حول الموضوع فبمجموع هذه الإصدارات يمثّل نقلة نوعيّة في حفظ التراث المحلّيّ وحمايته وتقديمه للقرّاء. ومَن سبق فقد حاز قدم السبق، ونال حُس الذِّكر، وتحصّل على الحظوة.

ثلاثة إصدارات جديدة

إضافة إلى أولئك الروّاد، أضع في أفق القارئ ثلاثة إصدارات متميّزة لثلاثة روّاد من الكتّاب، تناولوا التراث البحريّ من ثلاثة جوانب يكمّل بعضها بعضاً، وهي بمجموعها تشكّل إنتاجاً متكاملاً يركّز على جانب من جوانب الموروث الشّعبيّ في الإمارات. وهذه الإصدارات، هي: «البحر في التراث الشّعبيّ الإماراتي» للباحث فهد علي المعمري، وصدر عام 2018.

و»البحر في الذّاكرة الإماراتيّة: تراجيديا الحياة والموت»، للكاتب والأديب علي أبو الريش، و»لهجات سواحل الخليج العربي في المعاجم العربية بين الإهمال والإقصاء: اللهجة البحريّة في دولة الإمارات أنموذجاً» للباحث والشاعر سلطان بن بخيت العميمي، والأخيران من إصدار دائرة الثقافة والتراث في أبوظبي، عام 2019.

وسوف نستعرض مع القارئ الكريم كيفيّة التكامل في الإصدارات الثقافيّة المتعلّقة بالتراث البحري من خلال هذه الإنتاجات الثلاث. مع أنّ لكلّ واحد منهم مشربه، ومورده، وطريقة تفكيره، ومَعينه، وأسلوب كتابته إلا أنّ الوجهة الصحيحة في جمع التراث تجعلهم جميعاً، وغيرهم بطبيعة الحال، يصبّون نحو حفظ الموروث البحريّ، كلّ حسب اجتهاده وعمله وأدائه.

وممّا لا شكّ فيه فإنّ التوثيق مهمّ، وأنّ نسبة الأقوال والأشعار إلى قائليها مهمّة الكاتب فهو أعلم بمصدره، وأكثر معرفة برواته ومرويّاته. ومثل هذه الإنتاجات العلميّة تدلّ على رغبة صادقة لدى الباحثين في توثيق وتدوين وحفظ الموروث البحريّ.

تجوال في ميدان البحر

إنّ الحديث عن البحر في كتاب « البحر في التراث الشّعبيّ الإماراتي» تجعل الكاتب يطوف بنا في أجواء التاريخ والماضي بشقّيه القريب والبعيد دون أن يشعرنا بالفرق الزمني بين البُعدين، ويتلمّس القارئ ذلك من الأشعار المدوَّنة في الكتاب، وحيوات قائليها، وتواريخ وفيات بعضهم، ومن هنا يستدرك القارئ أنّ هذه الألفاظ والمصطلحات البحريّة لها حضور في الذّاكرة، ووجود في الماضي انتقل مع الزمن إلى وقتنا المعاصر، ومن الأمور الملفتة للنّظر أنّ هذا الانتقال يتمّ بسلاسة ويُسر وسهولة ممّا يعني أنّ هذه التراكيب القوليّة والعمليّة عميقة في الوجدان الإماراتي.

ولهذا حين يستعرض المعمري كلمات وألفاظ ومعاني أهل البحر، سواء كان ذلك في الأشعار أو الأراجيز أو الأمثال، فإنّه يقدّم للأجيال مخزوناً لا نفاد له لأنّه محفوظ في الذّاكرة المُتَدَاولة عبر الأجيال.

ومن الأشياء الملاحظَة أنّ الألفاظ البحريّة أو المتعلّقة بالساحل ليست حكراً عليهم وحدهم، لأنّ أهل البادية لهم نصيب وافر فيهم لأنّهم ساهموا مساهمة فعّالة في نشاطات الساحل وفي أعمال البحر بأنواعها، وهذا ما يميّز مجتمع الإمارات، وهذا ما بذله الأستاذ فهد في محاولة منه في إثبات هذا التقارب المكاني والنّفسي بين جانِبَي الحياة على أرض الإمارات.

معانٍ راسخة

من نظرة واحدة على إهداء كتاب «البحر في التراث الشعبي الإماراتي»، للباحث فهد علي المعمري، نجد البُعد النّفسي والقيمي الاجتماعي عند المؤلِّف، إذ يهدي مصنَّفه إلى الأجداد الذين تعايشوا مع البحر، وتداخلوا معه، وتأقلموا معه، ومنحوه من كلّ طاقاتهم، وأمدّهم بالحياة وعطاءات الخير.

ويتبيّن من خلال السرد أنّ أسماء السفن التي استعملها الأسلاف في الغوص لها ذِكر وافر في الشِّعر المحلّيّ منذ القِدم، بل بعضها لم أكد أسمع عنها، وكنتُ أظنّ أنّ لها معانٍ أخرى، مثل: الكيت، والميل، والدنقيّة بل نجد أنّ أجزاء السفينة نفسها لها ذِكر في الشِّعر الإماراتي قديمه وحديثه، إضافة للأشرعة.

 

 

Email