البرامج الثقافية واقع ينشد التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقيس المبدعون تأثير ما يقدمونه وما يقدمه غيرهم من المبدعين بأكثر من طريقة. من بين هذه الطرق البرامج الثقافية التي تنتجها التلفزيونات والإذاعات، التي تسهم في صناعة العديد من المشاهير في هذا المجال الإبداعي، عبر نشر الثقافة والمعرفة، والتأثير في شرائح المجتمع المختلفة، بما فيها المبدعون أنفسهم. ولكن، على أرض الواقع، هل هذا ما يحدث حقاً، أم أن الواقع يحتاج إلى تغيير؟

تولي التلفزيونات اهتمامها للبرامج الرياضية والمنوعة على اختلافها، كما أنها تقدم البرامج الثقافية أيضاً، لكن مقارنة بما يقدم عبر ساعات البث الطويلة، كم المدة المتاحة لهذه البرامج الثقافية؟ وهل تحقق عبر فقراتها الموجهة للجمهور الأهداف المطلوبة؟ فتستطيع بالتالي أن تخلق جيلاً مهتماً بالشأن الثقافي والإبداعي، أم هل استطاعت البرامج المحلية أن تواكب الحراك الثقافي على الساحة المحلية؟.. الكثير من الأسئلة تتزاحم، والكثير من الأجوبة تتلاقى عند أكثر من مبدع تحدثت إليه «البيان» في نقاش هذه القضية، مع إجماع على أن الطموح أكبر من الواقع، بينما استعرض المسؤولون عن البرامج رؤيتهم وأهدافهم من تقديم العديد من البرامج الثقافية على القنوات المحلية.

ريادة

أشار أحمد المنصوري، المدير التنفيذي لقطاع الإذاعة والتلفزيون في مؤسسة دبي للإعلام، إلى الدور الريادي لقنوات المؤسسة في مواكبة الحراك الثقافي والاجتماعي في مختلف إمارات الدولة، من خلال برامجها المتنوعة وتغطياتها التلفزيونية والإذاعية والرقمية على مدار دوراتها البرامجية، والتي لا تخلو من حضور لافت لمجموعة البرامج الثقافية والتراثية، إذ يقوم بإعدادها وتقديمها فريق إعلامي ومهني متخصص، حيث قال: لو توقفنا عند الدورات البرامجية الحالية لقنوات مؤسسة دبي للإعلام، نجد أن الجمهور المحلي والعربي على موعد عبر شاشة تلفزيون دبي مع الإطلالة المتجددة للإعلامية الدكتورة بروين حبيب من خلال برنامجها الجديد «نلتقي مع بروين»، الذي تناقش فيه قضايا ثقافية وأدبية وفنية، وتستضيف ضيوفها ضمن أجواء راقية تجمع الفكر بالنغم الأصيل، ليتم في كل حلقة جديدة طرح موضوع أدبي أو اجتماعي جديد أو مناقشة كتاب أو مجموعة شعرية أو أدبية، ولتفتح معهم موضوعات وذكريات ومواقف وتنقل المشاهد لعوالمهم المتفردة.

وواصل: في الوقت الذي يختص برنامج «لوّل ما تحوّل» على شاشة قناة سما دبي، بمضمونه الثقافي والأدبي، حيث يتناول الحِرف والمهن والفنون الشعبية والعادات والتقاليد التي مارسها أهالي البلاد، إضافةً إلى ذكر الأحداث والمواقف التي وطّدت ووثّقت العلاقات الاجتماعية بين أبناء الإمارات، في الوقت الذي يتضمن البرنامج الجديد لقاءات مع شخصيات من كبار المواطنين من مختلف مناطق الدولة.

وتابع: كذلك الحال بالنسبة للبرامج الصباحية، مثل برنامج «دبي هذا الصباح» على شاشة تلفزيون دبي، وبرنامج «صباح الخير يا بلادي» على قناة سما دبي، والتي تواكب بشكل يومي أهم الفعاليات الثقافية والفكرية عبر فقرات متخصصة، كحال البرنامج المسائي «الملتقى» على شاشة قناة سما دبي أيضاً.

إعلام ثقافي

في مستهل حديثه، أشار عبدالرحمن الحارثي المدير التنفيذي لدائرة التلفزيون في «أبوظبي للإعلام»، إلى حرص الأخيرة على تعزيز مسيرة الإعلام الثقافي عبر شبكة قنواتها ومنصاتها الإعلامية، حيث قال: يتجلى ذلك من خلال توفير طيف واسع من البرامج الثقافية والمتميزة التي تحاكي اهتمامات مختلف فئات المجتمع. وأضاف: يأتي هذا إلى جانب كونها من الدعائم الحكومية الرئيسة التي تقوم عليها خطة أبوظبي، وجزءاً لا يتجزأ من النهج المجتمعي والريادي الذي تسعى الإمارة إلى ترسيخه على مستوى المنطقة بالنظر إلى الحراك الثقافي الذي تقوده على مدى العام. وأوضح أن هذا ما يمكننا أن نتلمسه، في الحضور الواسع لمجتمع المثقفين في الفعاليات الثقافية التي استقطبت مختلف المثقفين والأدباء للحضور والمشاركة في المشهد الثقافي للإمارة، وهنا برزت مسؤوليتنا في ضرورة تسليط الضوء على هذا المشهد، وترسيخه عبر منصاتنا الإعلامية وخاصة في شبكة قنوات تلفزيون أبوظبي.

وواصل: وفرت شبكة قنوات تلفزيون أبوظبي مجموعة من البرامج الثقافية المتميزة خلال دوراتها البرامجية على مدار العام، وأبرزها برنامج «أبوظبي تترجم» الذي يسلط الضوء على أبرز قضايا الترجمة، وأهم المترجمين، وأشهر المقولات عن الترجمة وطرائقها، إضافةً إلى بعض النصوص الشعرية والأدبية القصيرة. وتابع: يهدف البرنامج الجديد الذي تقدمه الإعلامية أميرة محمد لإثراء المعرفة والثقافة والفكر. إذ يستضيف البرنامج في كل حلقة الدكتور سعد البازعي، الناقد والمفكر وأستاذ آداب اللغة الإنجليزية، الذي يناقش ضمن فقرة خاصة مجموعة من القضايا المهمة في المجال، مستعرضاً أقوالاً من حكماء عن الترجمة، ونصوصاً أدبية شعرية، وطرائف الترجمة السياسية منها والعلمية والدينية.

واستدرك قائلاً: يعرفنا برنامج «مكتبات وأسرار» إلى أهم المكتبات القديمة والجديدة في العالم، ويستعرض أهم الملامح الثقافية والحياتية للمدن التي تزورها أسرار الأنصاري مقدمة البرنامج. وأضاف: أما برنامج «العالمون» الذي يقدمه المذيع الدكتور محمد قاسم، فيناقش طبيعة الكون وما يضمه من كواكب ونجوم ومجرات، إذ يجمع البرنامج تراكم الخبرات التي قدمتها البشرية منذ أكثر من 400 عام في المجال، ويضعها بين يدي المشاهدين.

قضايا للنقاش

وبدورها، قالت الدكتورة مريم الشناصي، رئيس «دار الياسمين للنشر والتوزيع»: البرامج الثقافية التلفزيونية متنوعة ومتعددة، وقد تخدم بعض البرامج الكتاب ودور النشر. وتابعت: قد يكون بعضها الآخر مستمداً ومستوحى من الكثير من الكتب، فتترجم هذه الكتب والأخبار والمعلومات على شكل برامج حوارية أو نقاشية. وأحياناً تعرض الفعاليات الثقافية في الأخبار.

إذ أوضحت أن طريقة طرح القنوات التلفزيونية تتفاوت من جهة إلى أخرى، فالبعض يركز على المسرح، والبعض يركز على الغناء، والبعض يركز على الكاتب، مشددةً على أن القليل من هذه البرامج يركز على الناشر وهو المخرج الحقيقي للكتاب والإبداع الكتابي. وواصلت: البرامج تتفاوت أحياناً فقد تكون مساحة الموسيقى والمسرح والغناء، قد أخذت بعداً أكبر من الكتاب والرواية، وقد يكون ذلك لطبيعة المجال ذاته ولكنها كلها فنون ثقافية.

وناقشت مريم من جهة أخرى ما تقدمه كناشرة فقالت: إذا تحدثنا عن الكتاب لا بد أيضاً أن نقف وقفة مع أنفسنا كناشرين، هل قدمنا ما يستحق أن يترجم في أفكار وبرامج إذاعية وتلفزيونية؟ وهل هناك أطروحات تستحق النقاشات؟ فيما تابعت: خصوصاً وأن الكثير من المواد أصبحت متاحة على مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فهل نقدم ما يستحق الحوار والنقاش ويشكل ثورة فكرية حوارية بين المجتمعات، واختتمت بالتأكيد على أن هذه الأمور تستحق الطرح والنقاش.

قوة ناعمة

أما الروائي سعيد البادي، فقال: أعتقد أن بعض وسائل الإعلام يتعاطى مع الحراك الثقافي بشيء من الاستحياء، وبشكل لا يتناسب أبداً مع الحركة الثقافية التي تشهدها الدولة. وأضاف: لكن إذا نظرنا لبرامج مثل «شاعر المليون»، فذلك فعلاً علامة فارقة. وتابع: أحياناً نجد بعض البرامج تسطح التراث ليتحول إلى مجرد رجل يعمل على «يريور الصيد» أو امرأة تعد «لقيمات» وتراثنا أعمق من كل ذلك. وأوضح قائلاً: لدينا في دولة الإمارات قيادة رشيدة تعمل على ازدها ورفعة وتميز الدولة وترسيخ ركائز ذلك، ومن الواجب علينا مواكبة ذلك الحراك، كل في مجاله، منوهاً أن لدينا الكثير لنتحدث عنه، ولدينا كتاب وأدباء ومثقفون ومفكرون من مختلف الأجيال فلماذا لا يستفاد منهم كمادة خام لتقدم بلمسات فنية؟!

مفهوم أوسع

ورأت الأديبة مريم الساعدي أن على بعض البرامج الثقافية أن توسّع مفهوم الثقافة الذي يقدم بشكل مباشر. وفسرت قائلة: كأن معظم البرامج التي تقدم مخصصة لفئة معينة، ولا تتوجه في النهاية لجميع الناس. وشددت على ضرورة أن تتبنى البرامج الثقافية مفهوم الناس وترتقي بذائقتهم بالقراءة والكتابة، فالطرح الثقافي المنتقى هو بطل هذا الدور، في وجود معدين متخصصين. وواصلت: يساعد ذلك على أن تظهر البرامج نخبوية تجذب المشاهد، وتسهم في تشكيل ذائقة الجمهور.

كما أعربت عن أملها بأن يكون دور التلفزيون مؤثراً، وأن يمنح الثقافة الحيز الجدي من النواحي كافة، منوهةً إلى أن الأثر في المجتمع يظهر متأخراً، في فكر الأجيال، إذ تذكر أنها عندما كنت صغيرة كانت تشاهد البرامج الثقافية على قنوات عربية. وأضافت: اليوم أشاهدها على قنوات أجنبية ناطقة بالعربية، لأننا نحتاج إلى مثل هذه البرامج في قنواتنا، ومن هنا فإن الاحترافية تكمن في كيفية الاستعانة بالعارفين بهذا المجال من أجل تناول جدي لهذه البرامج.

مخاطبة الجماهير

فيما أشار القاص محسن سليمان إلى وجود بعض البرامج الثقافية المفيدة التي تعرض على بعض القنوات المحلية، قائلاً: بالمجمل يتوجب على مثل هذه البرامج أن تكون مفيدة وتخاطب أكبر شريحة من الناس لرفع الوعي والحس الثقافي، متسائلاً، لماذا لا تكون هناك برامج تعنى بالثقافة مثلما يوجد برامج رياضية أو اجتماعية أو برامج طبخ؟ وأوضح أن البرامج الثقافية قليلة بالنسبة للبرامج التي تعنى بالمجالات الأخرى، وإن وجدت فهي «موسمية».

واقترح إيجاد قنوات متخصصة بالثقافة ومذيعين متخصصين، مفسراً: أي أن ينصب الجهد بشكل كلي على الثقافة والفعاليات التي تقام من ندوات وفعاليات مهمة تنظمها العديد من المؤسسات والجهات. وأضاف: ما يقدم لا يتعدى الرسائل الثقافية القصيرة أو بعض المقاطع القصيرة لعدد من القصائد. وقال: نحتاج إلى أن تكون هناك أطروحات عميقة، لتصل الأصوات الثقافية إلى المجتمع.

ورأى أن الاعتياد على نمط معين مهم ويكرس لأمر ما، مثلما تكرست العديد من العلامات التجارية من كثرة التكرار. وأفاد قائلاً: كثرة العرض تخلق الطلب، ومثال ذلك الاهتمام الذي أولته الصحف للاقتصاد والرياضة، فتكرست هذه الميول لدى الناس، ولهذا نحن بحاجة إلى برامج ثقافية ثابتة لا تتغير مهما تغيرت محاور القناة.

صناعة ثقافية

من جهتها، قالت الروائية لولوة المنصوري: هناك اهتمام تنموي بالبرامج الثقافية في الإمارات، إذ تنهض بعض القنوات التلفزيونية المحلية، عبر سلسلة من البرامج التي تُعنى بالشكل والمضمون والمحتوى والتناول الإعلامي والفني المبتكر. وأضافت: من شأن هذه البرامج تعزيز ونشر الفكر والمعرفة وقيم التنوع الثقافي وثقافة السلام الاجتماعي. وتابعت: لهذا تستطيع أن تؤسس نقاشاً ثقافياً وفكرياً متواصلاً يشكّل محركاً لعجلة الصناعات الثقافية.

وواصلت: من الملاحظ في هذه البرامج الاستعانة بالمختصين في الفنون والتنوير والسلام والفكر والحوار، عبر تنوّع جميل ومخطط له، بغرض إشراك الجمهور في عملية الإنتاج وقياس آرائهم ومدى تفاعلهم. وقالت: أتابع حالياً برنامج «العالِمون» و«أبوظبي تترجم» والبرنامج الذي يُعنى بالمكتبات وكنوزها المعرفية ونفائسها التاريخية، وكذلك برنامج «أصوات من الخليج» الذي سيقدمه الشاعر الإماراتي خالد البدور على قناة الإمارات.

«دبي للإعلام».. مسيرة ثقافية

قال أحمد المنصوري، المدير التنفيذي لقطاع الإذاعة والتلفزيون في مؤسسة دبي للإعلام: من الإنصاف التذكير بعدد من البرامج الثقافية والفكرية التي قامت بإنتاجها مؤسسة دبي للإعلام عبر مسيرتها الفنية، التي لا يزال البعض منها يعاد بثه عبر شاشة قناة «دبي زمان» مثل برنامج «مجالس الشعراء»، وبرنامج «كل يوم كتاب»، وبرنامج «أعلام العرب» وغيرها من البرامج التي تابعها الجمهور عبر قناة سما دبي مثل برنامج «نبض الحروف» الذي اختص بالشعر الشعبي «النبطي» في الخليج العربي، من خلال إلقاء الضوء على أهم الأقلام الشعرية المحلية والخليجية، وواصل: كذلك برنامج «اسمع ما نقرأ» الذي واكب عبر حلقاته «عام القراءة»، وبرنامج «أبعاد ثقافية» على قنا سما دبي، إلى جانب لقاءات مع المفكرين والمبدعين والفنانين وتغطية لأنشطة ندوة الثقافة والعلوم في دبي، ورصد المعارض الفنية والمهرجانات الثقافية التي تشمل جميع أنواع الفنون.

وأضاف: أطلقت مؤسسة دبي للإعلام مبادرة «لسان الضاد يجمعنا» عبر موقع إلكتروني شامل ومخصص، للمساهمة في تعزيز صورة اللغة العربية والترويج لها باعتبارها لغة عالمية بامتياز، كذلك تغيير الصورة النمطية عن اللغة العربية، وإثبات أنها لغة عالمية وحيوية، وتشجيع الشباب العرب على استخدام لغتهم الأم عبر شبكة الإنترنت.

مسؤولية مشتركة

تعتبر قلة البرامج الثقافية وأسلوب طرحها ظاهرة عامة، تعاني منها معظم المحطات التلفزيونية والإذاعية في الدول العربية والأجنبية، بدرجات متفاوتة، والمسؤولية في هذه الحالة مشتركة بين عدة أطراف منها الإدارية والبرامجية والتقنية والمالية.

Email