نقد بديع للكبر في الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

كم أتمنى أن يستمع القراء لهذه المقطوعة الشجية بصوت سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، رئيس المجلس التنفيذي، قبل الشروع في قراءتها، فهناك يجد المستمع والقارئ المغزى الروحي العميق لهذه القصة الأولى في تاريخ الإنسان في صراعه مع النفس والشيطان، حيث كانت خطيئة الكِبْرِ ورفض الأمر الإلهي هي القاصمة التي قصمت ظهر إبليس، وأودت به منبوذاً مطروداً خارج الجنة ودائرة الرحمة، لَعيناً إلى أبد الآبدين، يقول تعالى في كتابه العزيز:

«قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» (الأعراف: 12-13).

في هذه القصيدة الشجية يتناول سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، هذه الفكرة من خلال نقدٍ بديع لأخلاقية الكبر في الإنسان المغرور بالمال والسيادة الزائفة متناسياً تلك الطينة التي خلقه الله منها، ذاهباً بنفسه مذاهب المغرورين المتكبرين الذين قصّ الله علينا من أخبارهم على جهة العبرة والعِظة كي نتجنب مصائرهم المؤسفة التي أودت بهم في غضب الله وعذابه:

يا سيد المال كم نفسٍ معك خانت

والخوف ما هو من الماضي من القادم

بهذا الخطاب الذي لا يخلو من نبرة العتاب اللاذع يخاطب سمو ولي عهد دبي هذا النموذج المتكالب على جمع المال ويعتبره القيمة العليا في الحياة، مذكراً إياه بأنّ المال هو العدوّ الخفيّ للإنسان، بسبب ما ينتج عنه من المتاعب إذا لم يؤدَّ حقّ الله فيه، حيث تكثر فيه الخيانة من الطامعين الذين يتربصون الدوائر بأصحاب المال ويحسدونهم على هذه النعمة التي تخفي أتراحها في أفراحها، وتجعل القلب متوجّساً من المستقبل أكثر من خوفه من الماضي، فالإنسان لا يعلم ما الذي تخفيه الأيام في طياتها، وكم من متنعم غدا صريع نعمته بين عشية وضحاها.

والناس لولا تواضع نفسها شانت

مع مراعاة ذا سيد، وذا خادم

وهذه دعوة صادقة للإنسان كي يحاسب نفسه، ويرجع بها إلى أصلها الفطري من التواضع النابع من معرفتها بأصل خلقها من التراب والطين، ثم كانت نطفة فعلقة فمضغة إلى آخر سلسلة الخلق الإلهي البديع للإنسان الذي جاءت الآيات تُذكره بهذه اللحظة؛ كي يظل في دائرة التواضع ولا تشمخ نفسه على أخيه الإنسان، فإن المال سبب عظيم من أسباب الطغيان، وقد ذكر الله تعالى ذلك بقوله: «كلّا إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى» (العلق: 6-7).

وفي هذا السياق نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن احتقار الإنسان لأخيه الإنسان، ولا سيّما في ما يخص العلاقة بين السيد والخادم ، فقال فيما صحّ عنه: «لا يقُلْ أحدكم عبدي وأمَتي، وليقل فتاي وفتاتي»، وهذا مستفاد من النص القرآني في قوله تعالى:

«فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ» (النساء: 25).

في هذا البيت يؤكد سموه هذا الأدب الأخلاقي الرفيع، داعياً الإنسان إلى التواضع الذي هو مقتضى فطرته وتكوينه، وأصل خلقته الترابية الضعيفة.

من قصة إبليس خذ حكمتك لا بانت

كان التغطرس في ذاته عاملٍ هادم

لقد كان إبليس من أكثر الجانّ عبادة كما تروي الأخبار، لكنه كان يُبطن الكبر والغطرسة، فأراد الله تعالى إظهار حقيقته أمام نفسه أولاً ثم للملائكة ثانياً، فأمره بالسجود لآدم عليه السلام مع الملائكة، فرفض الأمر الإلهي غطرسةً واستكباراً، وتعلّل بأفضلية خلقه في قياسه المشؤوم الذي جلب له الغضب والمقت والطرد ملعوناً إلى يوم الدين، فجاء هذا البيت تذكيراً من سموه للإنسان المتغطرس بضرورة الحذر من ذلك المصير المشؤوم، الذي صار إليه إبليس بسبب نفخة الكبرياء التي لا تجوز لغير الله تعالى، وقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وأبو داوود وصححه ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار».

لو كان رفضه لأمر الله فقط، هانت

الله يغفر ذنوب التايب النادم

المراد بهذا البيت أن معصية إبليس لم تقع على جهة الضعف والتقصير والاعتراف كما حصل مع آدم عليه السلام، بل وقعت منه كبراً وصلفاً وغروراً، مع سبق الإصرار وعدم التفكير بالتوبة، فحين وقع آدم عليه السلام في الخطيئة بادر فوراً إلى التوبة، وارتفع صوته بالتضرع إلى الله تعالى:

«رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (الأعراف: 23).

وذكر الله تعالى توبته على آدم بقوله سبحانه:

«فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (البقرة: 37)، وهذا هو الشأن في كلّ من وقعت منه الخطيئة على جهة الضعف والتقصير والاعتراف بالذنب، أما إبليس فقد تهدد وتوعّد وأرغى وأزبد، وأقسم ليقعدن لبني آدم صراطهم المستقيم وليضلّنهم عن سبيل الله وهديه المبين، فكانت عاقبة أمره خُسراً، خالداً في نار جهنم هو ومن اتبعه من شياطين الإنس والجن.

مشكلته اللي يعاني منها كانت

الكبر.. والكبر لله يا بني آدم

وهذا هو سر القصيدة ومفتاح مغزاها، فالمشكلة المتجذرة في قلب إبليس ليست الخطيئة الواقعة في دائرة الضعف والغفران، والصفح والمسامحة، بل كانت مشكلته في طينته المجبولة على الكبرياء والترفع على الآخرين، وهو مما يمقت عليه الله تعالى الخلق، ولا يسمح به لأحد البتة كما سبق بيانه من الحديث الشريف، وهو ما أكده سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم بقوله في ختام رائعته الشعرية الواعظة التي تعكس تواضع سموه وكرم أخلاقه ودعوته الصادقة للتحلي بالفضائل والابتعاد عن الغطرسة والكبرياء، فالعبد لا يليق به إلا القيام على ساق العبودية في محراب الخضوع والإنابة، ومن كماله الأخلاق أن يكون رحيماً بالآخرين، يحترم إنسانيتهم، ويصون كرامتهم، ولا يترفّع عليهم بسبب ما آتاه الله تعالى من الجاه والمال اللذين هما في جوهرهما فتنة للعبد، واختبار لأخلاقه وإنسانيته.

Email