توثيق التراث المحلي.. واقع متشابك وضرورات منهجية

أشرنا في الحديث بحلقة البحث الأولى في شأن أجدى أساليب صون التراث، إلى أهمّيّة النّشر والتأليف في ميدان التراث بفروعه المختلفة، وتقديمه للقرّاء المتعطّشين للمعرفة، والراغبين في تعرّف تراث الإمارات، على اعتبار أنّ المراجع في هذا الميدان قليلة مقارنة بميادين علميّة وأدبيّة أخرى.

كما يخدم النّشر في هذا الميدان نقل تراث الدّولة عبر الأجيال، وإبرازه على أنّه تراث الدّولة الأصيل. ومن هذا القَبيل أيضاً ما يقدّم من محاضرات وندوات وحلقات نقاشيّة وبحوث ودراسات ومقالات ومقابلات تلفزيونيّة وإذاعيّة وصحفيّة، وما تمّ إنشاؤه من معاهد ومراكز وهيئات متخصّصة تعمل على رفد تراث الدّولة وإبرازه وإعلاء شأنه.

وقد أشرنا سابقاً أنّه كان لميدان النّشر بداية متواضعة ومتأخّرة نوعاً ما، وكانت مع الإصدارات الأولى للرّوّاد الأوائل في ثمانينيات وأواسط تسعينيات القرن الماضي. كما ساهم في هذا الميدان كتّاب القصص والرّوايات والمؤلِّفون في الأنساب والشّعراء. وقد رفدتْ هذا التّيّار عدد من الدّوريّات العلميّة والمجلّات والملاحق الصّحفيّة.

حاطب ليل

علينا الإقرار كذلك أنّ هذه الإنتاجات العلميّة والكتابيّة تتفاوت من حيث العمق والتّعمّق والتخصّص في المادّة التّراثيّة، إضافة إلى الاختلاف فيما بينها من ناحية البُعد والعمق الأكاديمي والمنهجيّة العلميّة واتّباع الطّرق الحديثة في الكتابة والتّوثيق والتّأريخ. فَمِنها ما ابتعد كثيراً، ومنها ما اقترب، ومنها ما توسّط.

وهي بلا شكّ أعمال مُقَدَّرة، بذل فيها أصحابها جهوداً كبيرة، وفي الوقت نفسه فهذا لا يمنع من التّصحيح والتّعديل، وتقديم الاقتراحات، والنّقد البنّاء المبنيّ على الموضوعيّة والحياديّة والرّغبة الخالصة في العلم، والنّيّة الصّالحة. ومن الملاحظ كذلك أنّ مثل هذه المنشورات بأنواعها وأساليبها لا تلتزم المنهج العلميّ الصّحيح، وفيها ما يمكن أن نسمّيه «حاطب ليل»؛ إذ يجمع صاحبه كلّ شيء ولا يفرّق بين الغثّ والسّمين، وبين الصّحيح والسّقيم، فكلّ شيء عنده تراث، وكلّ معلم عنده حضارة قديمة. وبعضها مجرّد تجميع لا أكثر ولا أقلّ، بل بعضها تكرار لِما سبق نشره.

أمانة وتجديد

وقد عُدَّ كثير من الكتّاب في التّراث مؤرّخين مع أنّ التأريخ ليس بالأمر السّهل، فهو يتطلّب مَلَكة وإدراكاً وتميّزاً، فالمؤرّخ غير الرّوائي، ويختلف عن الصّحفي والكاتب؛ إذ إنّ صَنْعة المؤرّخ تخضع لقواعد معيّنة ومحدّدة، والمؤرّخ غير الهاوي.

كما تتطلّب صناعة التأريخ إرادةً حازمة، وحلماً في الأحكام، وحذراً. وبناء على ذلك فإنّ المؤرّخ يراعي القارئ؛ فعليه أن يقدّم معلوماته بكلّ وضوح، وأمانة، وموضوعيّة، وتجديد، وتشويق، وأمانة، ودقّة.

وبناء على ذلك فإنّ التّعامل مع المصادر التّاريخيّة يتطلب خبرة ودقة، ومن ضمنها منتجات الموروث الشّعبي، وتصنيفها، وتفسيرها، وإضافة إلى ذلك فإنّ الكاتب قبل أن يكتب يفكّر كمؤرّخ، فيحترم موضوعه الذي يزمع الكتابة فيه، وعليه أن ينظّم بحثه مع قراءة المصادر بعناية، وإيجاد الأدلّة.

ولهذا ليس كلّ مَن صنّف في الموروث الشّعبيّ مؤرّخاً خاصّة إذا رأينا كثيراً من الإصدارات لا يلتزم أصحابها فيها بالمنهجيّة العلميّة الصحيحة. ولهذا فإنّ ما صدر في ميدان التّراث الشّعبيّ يعاني نقصاً واضحاً في جمع المادّة التّراثيّة. وإنّ بعض الإصدارات ليست دراسات جادّة، وإنّما جاءتْ مجرّد تعاريف ضيّقة لم يتمكّن أصحابها من النّفاذ إلى روح الشّعب، وإظهار شخصيّة ابن الإمارات وتراثه.

منشورات التراث

وتنقسم الدّراسات والبحوث والمقالات حول التّراث اللامادّي في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة إلى أربعة أقسام:

القسم الأوّل: عبارة عن مقالات قصيرة منشورة في الجرائد أو المجلّات الثّقافيّة أو المجلّات المهتمّة بالتّراث. وهي لا تعدو كونها تعريفات لبعض المعاني والمصطلحات والأسماء والأحداث، أو مقابلات مع رواة في موضوعات مختلفة ومتنوّعة، وعلى الأغلب يغيب عنها التّوثيق العلميّ.

وهي في الأصل لا يُشتَرط فيها ذلك. ويندرج ضمنها إصدارات جمعيّات الفنون الشّعبيّة أو المهتمّة بالتّراث أو الهيئات والإدارات والدّوائر الثّقافيّة الرّسميّة. وهذه الدّراسات والكتيّبات والمنشورات تقدّم للقارئ تعريفات محدّدة في موضوعات معيّنة تركّز عليها، وهي تفيد القارئ من حيث تقديم المعلومات الموجّهة والمباشِرة، وهي في الوقت نفسه ليست كتابات أكاديميّة بالمعنى البحت للكلمة، وبعضها يصبح مرجعاً للقرّاء مع مرور الوقت.

والقسم الثّاني: الإصدارات الكبيرة والأعمال البحثيّة العامّة في موضوعات تراثيّة محدّدة لا تلتزم كثيراً بالشّروط الأكاديميّة للبحث العلميّ المتعارف عليه كالتّوثيق والتّدقيق والتّحليل، وكثير من هذه الإصدارات عبارة عن تدوين للمرويّات الشّفهيّة أو موضوعات مأخوذة من أفواه الرّواة والرّاويات، أو تشمل موضوعات الأمثال الشّعبيّة والطّبّ الشّعبيّ والقصص والحكايات والرّوايات الأدبيّة، وغيرها. ونكرّر أنّ كثيراً منها لا يلتزم المنهج الأكاديمي. وهي مفيدة للقارئ لأنّها تعرض له معلومات في وقت معيّن، وظرف محدّد، وموضوع بذاته.

والقسم الثالث: الإصدارات شبه الأكاديميّة، التي تحرّى أصحابها المنهج الأكاديمي.

والقسم الرّابع: الإصدارات الأكاديميّة، وهي غالباً ما تكون عبارة عن ندوات أو بحوث محكّمة تصدر من جامعات أو من مراكز علميّة أو مصنَّفات لأساتذة أكاديميّين.

إشكاليات

على الرغم من الكمّ الكبير من الإصدارات في مجالات الدّراسات التّراثيّة، إلا أنّه يوجد العديد من الإشكاليّات، منها:

أ. عدم وجود مفاهيم محدَّدة وواضحة، فلهذا نجد المؤلِّف يستعرض عدداً من المفاهيم والمصطلحات دون تفسير أو توضيح لها، وهو يوردها لمجرّد الذِّكر دون معرفة كنهها.

ب. قلّة الدّراسات العلميّة الجادّة، ونعني بها الملتزمة بالمنهج العلميّ الصحيح في الكتابة والتدوين والتحليل والتوثيق والنّقل.

ج. غياب التّوثيق العلميّ في معظم الأعمال التّراثيّة، وهذه أكبر إشكاليّات التأليف في هذا الميدان، نظراً لفقدان الكتّاب مهارة التأليف الصحيح.

د. غياب الرّؤية العلميّة في التّعامل مع التّراث الشّعبيّ بعيداً عن الحماس المبالغ فيه، وهذا يشير إلى أنّ أمثال هؤلاء المصنِّفين متحمّسون كثيراً لما يكتبون، ويفسّرونه حسب ميولهم وانتماءاتهم القبليّة.

هـ . غياب التّنسيق، بصورة عامّة، بين المؤسّسات العاملة في ميدان التّراث الشّعبيّ، مع أنّ دولة الإمارات تزخر بعدد من المؤسّسات والدوائر المهتمّة بميدان التراث بحثاً ودراسةً ونشراً.

ز. ضرورة التّوازن في الإصدار بين جميع عناصر التّراث، وعدم التّركيز على عنصر دون الآخر، إذ يحظى الشِّعر المحلّيّ وشعراؤه بأكبر كمّ من الإصدارات بينما تقلّ نسبة الكتابات في العناصر الأخرى. ولهذا نرى كثرة الإصدارات في ميدان واحد.

تدوين شفهي

لا أحد ينكر دور التّدوين الشّفهي في التّاريخ على اعتبار أنّه من فروع التّأريخ في العصر الحديث، وإن كان موجوداً سابقاً، إلا أنّه تمّ الاستفادة منه حديثاً لدعم الحقائق التّأريخيّة بمعطيات العصر. يقول كوامي يبواه داكاو: تبقى الأشياء القديمة في الآذان عبر الأزمان والعصور.

وعلى مثل هذه الأمور تعتمد منهجيّة الكتابة في التّأريخ الشّفهي. وقد أحسنت أماي ستراريشيسكي حين عنونت: «جثوم التّاريخ: قوة التّأريخ الشّفوي كممارسة صناعة التاريخ» إشارة إلى خطورة المرويّات الشّفهيّة إن استعملت بطريقة خاطئة.

تواصل اجتماعي

تحتاج الإنتاجات الثقافية إلى مراجعات كثيرة، ومن أفضل الأمور المساعدة على إنتاج ثقافي متميز من حيث الشكل والمضمون هو عرض هذه المصنَّفات ونقدها في الصّحف والدّوريّات العلميّة والمجلّات، وتقديم الرّأي الصّحيح فيها.

لكن الواقع هو أن كثيراً مما يتناقله النّاس من خلال شبكة المعلومات ووسائل التّواصل الاجتماعي ليس من التراث في شيء، إذ من خلال تلك الوسائط يدخل في التراث ما ليس منه، سواء كان في الألفاظ أو في العادات أو في التّقاليد.

وتبقى المعادلة دقيقة في ذلك؛ إذ إن مثل هذه المصنفات تحتاج إلى مراجعة دقيقة ممحصة من قبل متخصصين في الشأن التراثي، بحيث تكون تلك الكتب مشتملة على دراسات مبنية على البحث العلمي الدقيق الذي يمكن أن يستند إليه عند الكتابة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتأليف في التراث.

حماسة ومخاوف

ليس التّاريخ الشّفهي مجرّد تسجيل لما يقوله الرّواة، بل هو عمليّة أكاديميّة لها أصولها العلميّة التي تعمل على الوصول إلى ذكريات الرّواة عبر منهج محدّد الأطر، وعبر خطوات معيّنة، ولهذه العمليّة مفرداتها وتحليلاتها. إضافة إلى ذلك فإنّ حماس الكتّاب الفائق للتّراث الشّعبيّ ينتج عنه بعض العناصر التي لا تمتّ بصلة للتّراث، أو تلك التي تربطها به صلة واهية.

وأحياناً يتعامل بعض الكتّاب مع هذا التّراث من غير امتلاك المعرفة العلميّة أو النّظرة الثّاقبة للتّعامل معه في إطاره الاجتماعي والتّاريخي، وبالتّالي يطلقون الأحكام الجزافيّة على بعض عناصره بصورة خاطئة.

وينتج عن هذيْن الاتّجاهيْن بروز أناس يتحمّسون للتّراث فيحسبون ما ليس تراثاً تراثاً، وآخرين يتحمّسون للتّراث؛ فيرسمون له صورة ورديّة مشرقة، فيسقطون من حسبانهم بعض العناصر ظنّاً منهم أنّها ليس من تراث الإمارات.