محمد القصاب: بدأت جامع أخشاب وانتهيت فناناً تجريدياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحرص «البيان» على المشاركة الفاعلة في المحافل والمناسبات الوطنية، وتسهم في توثيق الإنجازات المحلية التي من شأنها تعزيز مكانة الدولة في كافة المجالات. ومن هذا المنطلق تشارك في رعاية المعرض السنوي الذي تقيمه جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في دورته الخامسة والثلاثين، وتم افتتاحه في 24 يناير الماضي، إذ يمثل المعرض نافذة على المنتج الفني الإماراتي والمحلي، الذي وثق من خلال مسيرته لتاريخ الحركة التشكيلية في الدولة.

وتضيء «البيان» من خلال نشر مجموعة من المقابلات مع رواد الحركة التشكيلية في الإمارات، على تجارب هؤلاء بموازاة التعريف بالبدايات والتحديات في هذا الحقل، وذلك في محاولة لإظهار التطور الذي شهدته الحركة التشكيلية منذ تأسيس الدولة وحتى الآن، وسنخصص هذه الصفحة لنشر عشرة حوارات متتالية، سيتم جمعها لاحقاً في كتاب خاص، بالتعاون مع الجمعية.

لابد من المثابرة والتعلم والصبر ليصل الإنسان للنجاح والتميّز وهذا ما فعله الفنان محمد القصاب، حيث إنه يمتلك الشخصية المتواضعة والمحبة للتعلم وشغف الوصول لأفضل ما يمكن في مجال الفن التشكيلي، وقد كان دور والدته في تكوين شخصيته الفنية كبيراً؛ لأنهم كانوا يقومون بالأعمال اليدوية كالتلي والبراقع والطاقيات ما ترك الأثر على تكوينه وشخصيته الفنية لرؤيته لتمازج الألوان والفنون واللمسات الجميلة التي تحمل الحب والاهتمام في صناعتها بالإضافة لشخصيته المبتكرة الباحثة عن الفن والجمال.

يعتبر الفنان محمد القصاب أحد رواد الفن التشكيلي في الإمارات، ومن الفنانين الذين اتخذوا التعلم والصبر سبيلاً للوصول إلى الغاية التي وضعوها نصب أعينهم، ولم يمنعه شظف العيش الذي مر به في صباه من أن يلزم ركب الإصرار ليقدم نتاجاً راقياً يحمل رسالة فنية سامية. وقد كان لـ«البيان» أن التقت به للحديث عن بداياته وذكرياته المحمّلة بالفن الجميل وأهم المواقف التي صقلت شخصيته الفنية.

سوق الصنادق

يقول القصاب: بداياتي كانت في المدرسة في مرحلة الستينيات، وقتها كان عمري 9 سنوات؛ كنت أعمل في عدة أمور كالنجارة وجمع الخشب من المحلات القريبة من المنزل، وأذكر أننا كنا نسكن في ديرة القريبة من «سوق الصنادق».

كما كان يطلق عليه سابقاً، والآن معروف بـ«سوق نايف»، وأكوّن من الخشب سيارة أو غيتاراً أو ثلاجة، وكنت أصنع الثلاجة كالتالي: أعمل مكاناً للبطارية وأستعين بالمصباح الصغير من المصباح اليدوي وأضعه بالداخل، بحيث يضيء عندما يفتح باب الثلاجة.

ودرس الفنان محمد القصاب في مدرسة الأحمدية القديمة عام 1965، ثم دخل المدرسة الأحمدية الجديدة الواقعة في الراس مقابل الشندغة المطلة على الضفة الأخرى للخور، ودرس للصف الرابع هناك. ويقول: كنا نتعلّم بعض الأعمال الفنية في المدرسة مثل الكولاج وغيرها، إضافة إلى رحلاتي حول محلات الخطاطين؛ أنظر إليهم وهم يعملون، فلفت انتباهي تلك الفترة ملصقات الأفلام السينمائية وعملها على قطعة قماش كبيرة وبألوان واضحة.

وأضاف القصاب: في عام 1973 أصبحت أعمل على البورتيهات فأنقل الصورة والأعمال الفنية وأرتبها، كنت أحضر أوراق التقويم السنوي ذات الحجم الكبير، والتي أحتفظ بها في منزلي إلى الآن، وأستخدمها من الجهة الخلفية من الورقة للرسم، فأقوم بلصقها على خشب في الغرفة، ولم تكن غرفتي الخاصة طبعاً بل تشاركني العائلة فيها، وأضعها في إحدى الزوايا للرسم، وكان البعض يطلب مني الرسم لهم مقابل عشرة دراهم تقريباً، ثم أصبحت أقلّد اللوحات العالمية لأتدرب وأجرب في الوقت ذاته على فن آخر.

حينها لم أجد من يدربني ويوجهني، ومع الاستمرار انضممت لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ولم تكن طموحاتي تقف لدى حد معيّن، وفي إحدى المرات كنت في زيارة لمعرض الكتاب، فاتجهت لدفتر الزوار وكتبت فيه: أتمنى أن أكون أحد الفنانين المشاركين السنة القادمة، وذلك في المعرض الفني المصاحب لمعرض الكتاب، وبالفعل حققت طموحي بالمشاركة في السنة المقبلة في معرض الجمعية السنوي وشاركت في معرض خارج الدولة في 1983.

كاريكاتير

يضيف: كنت أحاول وأجرب بنفسي، لذلك لم يكن لدي خط ثابت ولفترات زمنية طويلة، كنت أرسم الكاريكاتير لبعض الصحف لتحمل الرسمة في طياتها الطرفة والنكتة الخفيفة لتكون هواية، وعملت فيما بعد بمسمى وظيفي «رسام» في جهة ما، وتطورت العملية لدي وبدأت أتعلم الكمبيوتر وتعلمت كيفية تصميم الشعارات «اللوغو».

وفي بداية عملي على «اللوغو» تذكرت من خلال الأدوات التي رأيتها من معدات وأحبار هي نفسها التي كنت أراها عند والدي في الستينيات، لأكتشف بأني قد أكون ورثت حبي للفن والرسم منه وكان يعمل والدي مقاول بناء ويرسم على أوراق وخرائط، كما علمني المقاسات ونقل أو نسخ مخطط الرسم للمطبخ ودورة المياه لأنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة.

كانت لديه طريقة في الطباعة ويضع الأوراق الكربونية والورق المرسوم عليه بين لوح زجاج وخشب ويعرضها للشمس ثم يضعها سريعاً داخل البرميل فتخرج رائحة كريهة منه؛ رائحة الأحبار والمواد الكيميائية المستخدمة وهذه العملية كانت الخطوات العملية للطباعة وهي تشبه عملية تحميض الصور.

كما كان جدي يعمل في الجبس وعمل الزخارف الجميلة للبيوت القديمة، وتأثرت بأمي وجدتي في مسيرتي الفنية لأنه كانت لديهم أعمال يدوية، وكأنه أصبح موروثاً لدي في الجانب الحرفي من خلال رؤيتي لهم.

يرجع القصاب لحديثه عن عمله في مجال الكمبيوتر ويقول: تعلمت من خلال دورات بسيطة إضافة إلى المعلومات التي أتلقاها من البعض، ثم تعرفت على عمل المطبعة وكانوا يستخدمون آنذاك جهاز الماك وصناعة الجرافيك ومن بداية التسعينيات أتقنت العمل على جهاز الماك، ثم تعلمت الطباعة على برامج أخرى لأستفيد منها وتمكنت من عمل مطويات؛ ثم الناشر الصحفي؛ ثم الفوتوشوب .

اللوحات بقيمتها التاريخية

في بداية التسعينيات ساهم محمد القصاب في إخراج مجلة تشكيل التي مازالت تصدر للآن وتضم أعمال الفنانين وأفكارهم ورؤيتهم للفن إضافة للمعارض المقامة، ويقول: تعرفت على شخص ألماني في بداية الثمانينيات، وتعلمت منه بعض الخطوات، وفي إحدى المرات دهشت عندما قام بعدة خطوات للطباعة الحريرية وأعجبت بالطريقة وكنت أول مرة أتعلمها، ولكن لم أستمر لأني وجدتها تصلح للمجال الصناعي.

وعن مشواره الفني واتجاهاته في البداية يقول: عملت على رسم اللوحات الواقعية لفترة ثم اتجهت للرسم التجريدي، بعدها شاركت في البينالي دون انقطاع حتى الآن.

وأضاف: بدايتي في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية عام 1980 وقتها التقيت بمجموعة فنانين مرحبين وودودين جداً، يردون على الاستشارات بكل حب لتأخذ منهم المعلومة المفيدة وتتعلم أساليب وتقنيات جديدة، وكانت اهتماماتهم إقامة الورش والمعارض والفعاليات وأول ما انضممت بالجمعية شاركت بالمعارض.

أفكار

وقد ساعدني الانضمام للجمعية على إيجاد مكان لعرض لوحاتي، وتعلُّم أساليب فنية جديدة واكتساب المعرفة والمعلومات بالإضافة للاختلاط مع الفنانين والتعرف إليهم أكثر واكتشاف مدارس وأساليب فنية جديدة والكثير من فنانين لهم فضل كبير على مسيرتي الفنية، وساعدت المعارض التي كنت أحضرها في الدولة في البدايات لأني كلما أشاهد أعمالاً أكثر تصبح الذاكرة مليئة بالأفكار والأساليب المختلفة، ليبحث كل واحد عن أسلوب وطريق يميزه.

بيعت الكثير من أعمال القصاب، وأول عمل تم اقتناؤه لشركة أدنوك، ثم وزارة الثقافة ومتحف الشارقة للفنون ومؤسسة الشارقة للفنون، ومؤسسة الشارقة للفنون، كما اقتنى معالي عبدالرحمن العويس وزير الصحة ووقاية المجتمع «حالياً»، وهي لوحة عبارة عن سيدة تجلس مرتدية «البرقع»، إضافة للوحة اقتنتها مؤسسة العويس.

ويقول القصاب: لا أختلف عن باقي الفنانين في لوحاتي، وقد يرجع حب اقتناء أعمالي لأني من الأوائل الذين عملوا في الفن والرسم لأن اللوحات لها قيمة زمنية وتاريخية وفي النهاية الذائقة تختلف من شخص لآخر.

فعاليات

أضاف: الاستمرارية موجودة والتسلسل الزمني أنتج مجموعة من الشباب المبدعين الذين يدفعهم الشغف نحو الريادة، كما أن هناك فعاليات وأنشطة كبيرة للمشاركة وعلى الشخص الاهتمام بنفسه وينتج أعماله الفنية، فالذي يمتلك الرغبة والشغف والحب للفن والتعلم فهو دائماً يسأل ويذهب ويبحث عن طرق التعلم وإذا كان لديه التحدي سيستمر ولا بد بعد ذلك أن يصل، وهناك تشجيع في كل وقت وزمان ولكن لا بد من الشخص أن يجرب ويجتهد ويعتمد على نفسه.

تقنيات تضفي نكهات ولمسات

يقول الفنان محمد القصاب: وجود طابعات ثلاثية الأبعاد يساعد على إنتاج الأعمال الفنية، فبالإمكان أن يعطي الشخص الأمر الذي يريده ويتصوره للطابعة للاطلاع على الشكل المطلوب وكما يريده الفنان، ومع وجود التقنيات الحديثة أصبح الشباب يستخدمونها في الفن ولاحقاً سنشهد معارض مليئة بمجسمات فنية من خلال هذه الطابعات وكل جيل يضيف شيئاً مختلفاً.

ويمتلك القصاب الكثير من أجهزة الكمبيوتر القديمة التي يحتفظ بها ويقول: لا توجد الآن الغرفة المظلمة للتحميض، وذلك بسبب ظهور كاميرات الديجيتال، فقد تغيرت التقنيات؛ حتى الكاميرات لا تستخدم كالسابق، وقد كان عدد المصورين قليلاً، والآن أصبحوا في تزايد، وذلك بالطبع يعود للتطور والتقنيات التي تساعده على إنجاز وإظهار الصور بطريقة مناسبة، تسهم في إضافة نكهات ولمسات من الفنان باستخدام هذه التقنيات.

البدايات بالألوان المتجانسة

كسر الفنان المعاصر محمد القصاب حدود اللوحة الكلاسيكية عبر الخروج بتشكيلات هندسية تميل للفراغ المطلق، لجانب أعمال أخرى تشبه الصياغات التكعيبية لسيزان.

امتازت تجربته في البدايات بألوان متجانسة شكلت مساحات كبيرة تمثل موضوعه الذي كان غالباً يشكل عنصراً من عناصر البيئة المحلية مثل «الفنر»، ويؤكد أنه يكره التكرار والرتابة خوفاً من القول إنه يعيد نفسه ولا يأتي بجديد، لذا نجده يعكف على البحث الشكلي واللوني العميق الذي يقوده لمرحله فنية جديدة.

ويؤكد أن التعلم يعتمد على الشخص؛ فإذا كان يحب الفن بشغف فسوف يستمر ويبدع، ويقول: كنت شاباً صغيراً واهتماماتي تنصب على هذه الناحية من الفنون، وتعلمت الكثير من المهارات بنفسي، وكان كل فنان يصور ويوثق لوحته بنفسه في أرشيف خاص.

 

Email