نذهب عميقاً في دروب الخير والوفاء للوطن وإنسانه.. نتجول في ربوع البلاد بحثاً عن منابع التميز، عن إمارات الرضا والسعادة، في عيون الأطفال والكهول.. نلتمس مكنونات هذا الشعب الكريم، في قراه البعيدة وبواديه وضواحيه، حيث النقاء والأصالة، نقف على آثار الماضي ونمط العيش الجديد، لنشهد كيف حدث ويحدث التحول التاريخي العظيم من حياة البساطة إلى حياة الرفاه والمعاصرة، دون خسران للهوية الغالية. «البيان» في هذه السلسلة تجالس الناس، تستعرض طواياهم الجميلة، تقاسمهم الماء والخبز والذكريات.
لا غرو أن يطلق المواطن سعيد عبد الله الظهوري «بو مشعل» اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، (رعاه الله) على قرية تراثية مهجوسة بالصدارة ويرفرف علم الدولة فوق ساريتها العالية، فهنالك على سفح آخر الجبال العظيمة الفاصلة بين الإمارات وسلطنة عمان، إشارات عدة على الفرادة والتميز تضمها القرية وتشمل مفردات فولكلورية نابضة بالحياة، تنتصب قبالة طود شاهق وهي تتحرى أرقاماً قياسية تستحق الدخول عن جدارة في موسوعة غينيس العالمية.
ح2: #وادي_شعم.. شموخ الذكريات بين أحضان الجبالhttps://t.co/Lyg0hrvtKc@RAKTourism@RAKeGov@MoCCaEUAE#دروب_الإمارات2#البيان_القارئ_دائما pic.twitter.com/ml4Y6SJ4pl
— صحيفة البيان (@AlBayanNews) November 29, 2017
نحن الآن في وادي شعم، نجلس تحت «السبلة» التي تستقبل «الخطّار» بحفاوة وكرم عيال زايد المعهود، وحيث تهب نسائم الشتاء المفرحة على أطراف شعبية «الجير» عند آخر نقطة من إمارة رأس الخيمة العتيدة..هنا ترى العين الفولكلور الشعبي حياً يرزق، لا ككل المتاحف وقرى التراث، لأن بركة الماء مثلاً ليست مجرد زينة أو تمثال وإنما تقوم بوظيفتها القديمة ذاتها، فتمتلئ بماء السيول المنحدرة من أعالي الجبال، ثم تسقي ما حولها، ليتحول الجدب إلى خصب وازدهار تجسده بساتين النخيل المتشابكة، بل رأينا الوعب مخضراً بكثافة، وشهدنا رجالاً إماراتيين يشمرون عن سواعدهم ويقومون بحراثة التربة وفي أيديهم أدوات قديمة، تمهيداً لزراعتها بالبر«القمح» ثم رأيناهم وهم يضربون الطبل ويضربون بالسواعد ذاتها المحصول الزراعي لفصل الحبوب عن سنابلها اليابسة، ثم يطحنونها بالرحى التي قُدت من جلمود صخر حطه السيل من علٍ، وكل ذلك بأيديهم، تماماً كما كان يفعل الأسلاف في ماضي الزمان، هنا على هذه السفوح الوعرة.
شعبية الظهوريين بالجير التي جاد بمساكنها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، هي الأقرب إلى هذا المكان الذي نحن فيه «قرية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للتراث» التي تأسست منذ بدايات الألفية الثالثة بتمويل شخصي من سعيد الظهوري الذي لا ينسى مكرمات الشيوخ حين يبوح: لقد أطلقت هذا الاسم المشرّف على قريتي التراثية عرفاناً بالجميل الذي يحيطنا به قادتنا الكرام. والظهور هم سكان المكان ومعهم تعيش لا تزال عاداتهم ودبشهم وأغانيهم وتقاليدهم العريقة التي لم يتخلوا عنها قيد أنملة إلى يوم الناس هذا، ولكنهم يحتفون بها إلى درجة أن أبا مشعل -إلى جانب ما يدخر من فؤوس عتيقة - يصنع «يرز» بطول 6 أمتار وينصبه إلى جواره خيزرانة بطول 4 أمتار ويقول بثقة: إنهما الأكبر إطلاقاً في العالم.
جولة في الماضي
أخذنا مضيفنا سعيد الظهوري«بومشعل» في جولة تخللت جنبات قرية محمد بن راشد آل مكتوم للتراث فوقفنا بعد «السبلة» الأنيقة على باب «الصفة» وهي غرفة حجرية ضيقة مساحتها لا تزيد عن مترين في ثلاثة أمتار ولها فتحات تقوم مقام النوافذ في إدخال الهواء في فترة «القيظ» الصيفية وتسقف بـ«الدعن» وهو جريد النخل ويُسد مدخلها بالزفارة، والزفارة هي باب بسيط منسوج من أعواد الزور المأخوذة من النخيل.
وأمام الصفة فكانت تجمع مفردات بديعة من التراث الإماراتي الجبلي بينها الخرس وموقد النار والمنفاخ وابريق الشاي الخ.
وحينما مررنا بغرفة القفل التي تقع تحت شجرة الرولة الناعمة، تأكدنا من عبقرية القدماء فوق هذه الجبال النائية، كيف اهتدوا إلى صنع بيت يتكيف مع الفصول، فهذا القفل بارد في الصيف دافئ في الشتاء بفضل فكرة حفر أرضية الغرفة بعمق يصل إلى متر ونصف المتر. ليس هذا فحسب وإنما جدران الغرفة مبنية من الحجر الجبلي الأحمر الذي له وظيفة من هذا القبيل.
رأينا على الجدران صنوفاً من البنادق القديمة بدءاً من «بوفتيلة» الذي هو من أقدم البنادق التي انتشرت في المنطقة «منذ العهد البرتغالي» بداية القرن الثامن عشر.
باب السدر
يقول بومشعل إن في هذه القرية باباً عتيقاً مصنوعاً من خشب السدر ونعتقد أنه عاش ثلاثة قرون «300 سنة» وتوارثته العائلة أباً عن جد.
هذا الباب المعمر له مفتاح حديدي عجيب يسمى «العَلَق» كما له مزلاج ضخم، ويستحيل اقتحامه ولذلك صمد عبر الأجيال.
إنتاج
الرحلة التي أخذنا فيها علي بن حمدون الشحي«بوهزاع» وعبد الله الشهبوب الظهوري«بوعمر» إلى الماضي، كانت شائقة في الحقيقة، لأنها ليست مجرد حكي يختلط فيه الواقع بالخيال، وإنما ممارسة عملية شهدناها جميعاً، حيث حملا المحراث المعدني القديم «الهيس» وقلبا به التربة الخصبة، داخل «الوعب» المخصص لزراعة البر في فصل الشتاء، ليحصد في مارس ويجمع في «الينور» وهو مكان دائري على الأرض لتكويم سنابل البر / القمح فتضرب بالعصي بعد استنفار أهل الحي، وبالفعل قام بوهزاع وبوعمر بهذا العمل الإنتاجي أمامنا، وبعد ذلك قاما بعملية طحن الحبوب في غرفة الرحى الحجرية.
قال بومشعل: بقايا البُر تسمى «الغفة» وهي التبن، وتحفظ في مكان خاص يسمى«الينز» حتى الشتاء لتقديمها علفاً لـ«الدبش» / الأغنام لأنها لا تستطيع الخروج بحثاً عن الكلأ، من جراء السيول الكثيرة المنحدرة من كل مكان. ويضيف الرجل المسن علي بن راشد المحمدي الظهوري: كنت أسكن قرية الحدبة المجاورة لقرية الحريف التي سكنها أهل بومشعل هذا، أنا عشت زهاء ال45 عاماً فوق الجبل.
وفي مرحلة أولى من مراحل النزول من أعالي الجبل هبطنا نحن وأهل الحريف معاً إلى منطقة قريبة من السفوح تسمى «الغبم» ومن ثم رزقنا الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله الذي خصص لنا بيوتاً شعبية سميت شعبية الظهور عام 1975م.
لهجة
تركنا الشيخ الكبارة والتفتنا إلى بو مشعل وسألناه: لقد لحظنا وجود لهجة خاصة بكم تتحدثون بها بين الفينة والأخرى؟، فقال نعم هي لهجة تجمع الشحوح وقبائل الحبسي والشميري والنقبي، وهم قبائل رؤوس الجبال لا يفهم لسانهم غيرهم وهي في الحقيقة نوع من اللغة العربية الخاصة.
أكبر بركة
علي بن راشد رجل من طراز الفرسان، كيف لا وهو الذي كان يوماً، أيام شبابه، من سكان أعالي الجبل، قرية الحدبة المجاورة لقرية الحريف، مهنته كانت بناء البيوت الحجرية «القفل» وحفر البرك وبنائها، ورغم أنه ترك هذه المهنة الشاقة منذ سنوات خمس إلا أنه لايزال يتذكر كيف كان يحمل على كتفه 40 كيلوغراماً من الإسمنت ويصعد بها إلى قرى الجبال لمسافة تستغرق أحيانا 9 ساعات، يستريح خلالها في مناطق «المحدار» وهي صخور مهيأة لوضع الحمولة مؤقتاً ريثما يستجم ثم يحني ظهر ويتناولها ليواصل الصعود الشاق.
قال: قريتنا كانت تضم 30 نسمة فقط، ولكنهم كانوا كأسرة واحدة متكاتفة، ويضيف أنجزت في حياتي 38 بركة ماء بأحجام مختلفة وكان يحصل مقابل ذلك ما لا يزيد على 70 روبية خلال الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي.
ومما يتذكره علي بن راشد الظهوري قصة النمور التي كانت تعتدي على «دبش» القرية والقرى المجاورة، ويذكر كيف قام الشباب يومئذ بعمل حفرة بطريقة خاصة مع أحبولة للإيقاع بتلك النمور حتى تم القضاء عليها.
سألناه كم تبلغ الجبال المحيطة بوادي شعم هذا؟
قال: هنالك جبل المحْلي، وجبل الرحرح، وييب الطوق، ييب الحدبة، ييب الحريف، ييب الخنته ومق مويس وخب الإلب وخب كين وجبل لخليقة، وهنا تدخل بومشعل قائلاً: في الحقيقة هذه أسماء الأودية المنحدرة من كل جبل فسميت الجابل بأسمائها.
ويعود علي المحمدي يواصل قائلاً: زمان كنا نعيش على الزراعة فوق الجبل وعلى تربية الأغنام وقطع الأشجار لصنع السخام«الفحم»، والأمطار الغزيرة يوما ما كانت تبدأ في أكتوبر وتنتهي في مارس.
الطبيعة تنحت أعمدة
في بستان علي المحمدي كتل صخرية ملساء ملقاة على الأرض في صورة أعمدة بطول ثلاثة وأحياناً أربعة أمتار وهي تتخذ شكل المستطيل المتنظم وكأنما صنع داخل قالب، ويقول صاحب البستان إنه من صنع الطبيعة حيث تم استخراجها من باطن الأرض كما هو.
«الغبان»
خرجنا من قرية التراث إلى سفوح الجبل، فاكتشفنا أن وادي شعم محاط بالجبال من كل ناحية، وليس في الاتجاه الواحد جبل واحد، وإنما عدة جبال شاهقة وجرداء، ونستمر صعوداً إلى أعلى السفح تحفنا أشجار السمر القليلة وبعض الغنم / الدبش المتناثر، لندخل بستان الفارس الشيبة علي بن راشد المحمدي الظهوري الذي قوس ظهره حوالى قرن من عمر الزمان، يقول عن بركة الماء العملاقة التي شيدها في هذا المكان الوعر: بركة الغبان حملت من أجلها 70 ألف حصاة على ظهري على مدى سنوات، إنها الأضخم من نوعها في المنطقة حيث يبلغ 15 متراً وعرضها 7 امتار وعمقها 4 قامات، وتبدو بحجم سد حقيقي صنعها بنفسه وجلب لها الحصى على كتفه وعلى الدواب من الجبال العصية، وهي بمثابة سد دون حاجة إلى مهندسين يحددون مداخل الماء ومخارجه سوى خبرة هذا الرجل الكنز الذي نيف على 95 سنة.
ضرب الطبول
عدنا إلى قرية محمد بن راشد آل مكتوم التراثية، لنجد بوعمر وبوهزاع يضربان الطبل وينشدان الأغاني الشعبية وبعد أن التحق بهم بومشعل قام منفرداً بأداء «الندبة» المشهورة في هذه النواحي وتتجاذبها الجبال بالصدى
عاشق التراث
مضيفنا سعيد عبد الله الظهوري «بومشعل» يقول إنه في الأربعينات من العمر، درس الابتدائية في مدرسة احمد بن ماجد برأس الخيمة وعمل «كاتباً خطاطاً» في إدارة المرور في الإمارة ذاتها، يعتبر نفسه عاشقاً ولهاناً ، وهو كما يقول سعيد باللقب الذي أطلقته عليه "البيان" قبل سنوات حينما سمته «حارس البوابة التراثية الشمالية» وهو يؤكد عملياً هذه الحقيقة بـ«شلة» يرددها مترنماً:
نحيي التراث ونعتني بَهْ
ونعيد له صفحة زمانه
شوابنا وصّوا علينا
بارقبنا خلوا أمانه
نصون موروث الجدود
وتراثنا نوقف عشانه